كنا نتحدث في مجلس جمع بعضاً يكتب ويقرأ مع بعض يقرأ ولا يكتب. قال زميل من دولة في أقاصي شرق العرب: يحدث عندكم ما يحدث عندنا. كلنا نواجه ظاهرة تتفاقم ولا حل جاهزاً. كثيرون في هذا المجلس وخارجه لا يدركون أهمية وخطورة ما يحدث عندنا وعندهم. أقصد المأزق الذي تمر فيه الطبقة السياسية وحال ما يعرف بالنخبة في معظم الأرجاء العربية. لا شك أنكم تلاحظون الزيادة المتتالية في عدد من تخرجه جامعاتنا من شباب، رجالاً ونساء، من كليات تتخصص في تدريس مواد تؤهل الخريجين لعضوية في الطبقة السياسية. آلاف وآلاف في العالم العربي ينضمون سنوياً، بينما المفترض لضمان مستقبل معتبر لمجتمع في دولة ناهضة أن تكون هذه الطبقة في حجم يناسب المهام التي دربت لتحقيقها والتي من أجلها حصلت على صفة ومكانة «النخبة أو الصفوة» تمييزاً لها بين مختلف فئات الأمة. الأمر جد خطير. مهام تتطلب لتنفيذها خبرات في مجالات إدارة المجتمعات وتسوية النزاعات الطبقية قبل استفحالها وتوفير القواعد اللازمة لضمان الأمن المجتمعي في الداخل كما ضد تهديد الخارج بنوعيه، التهديد القادم من الكوكب الذي نعيش فيه والتهديد الذي تمارسه كيانات فضائية استقرت بالفعل في قواعد خارج الكوكب.
تعالوا ننظر من حولنا ومن خلال ما جرى خلال العام المنصرم، ننظر ونقرر هل كانت الطبقة السياسية المهيمنة على دولة عظيمة مثل المملكة المتحدة، أو بالأحرى هل كانت النخبة الحاكمة في دولة أعظم مثل الولايات المتحدة أو في روسيا تتسم بالكفاءة الواجبة لمواجهة هجوم فيروس الكوفيد لمجتمعاتها. الواضح أن ضخامة حجم هذه الطبقة في كل هذه الدول وقف عائقاً في وجه تنفيذ خطة محكمة للفوز في معركة التصدي لهذا العدو الخفي. المطلوب يا أصدقائي الأعزاء هو التخطيط لتشكيل نخبة سياسية جديدة بتركيز حقيقي على الجودة والكفاءة لإيقاف ضم خريجين وأشباه سياسيين لا يناسبون الحال الذي تأمل المجتمعات النهوض نحوه، النتيجة تدهور ثم مزيد من التدهور.
أين مأزق الكاتب هنا؟ الكاتب مهمته الوصف والتحليل والنقد وتقديم الحلول في حدود ما أتيح له من معلومات من جانب الطبقة السياسية. هذه الطبقة التي حظيت بشرف المسؤولية ولم يتوفر لها التدريب الكافي والتركيز المناسب بسبب تضخمها وتزاحم أفرادها على وظائفها وامتيازاتها. لم تتدرب في أحزاب سياسية أو نقابات حرة أو في مؤسسات عتيدة حتى صارت المعلومات يأتي بعضها إلى الكاتب غير ناضج وغير مترابط أو متكامل، أو يأتي متلوناً بلون الشخص عضو الطبقة السياسية الناقل للمعلومة.
نبهنا صديق من لبنان إلى واقع كان فريداً ولم يعد كذلك. نشأنا في مجتمعات يصعب جداً الفصل فيها بين فئات وتراتيب الطبقة السياسية. تعودنا على أن يتداخل الديني والمدني أو الريفي والمديني أو القادة وأعضاء عائلاتهم أو العسكري والسياسي في تشكيل هذه الطبقة التي يفترض أن تخرج منها أو تخرج الصفوة. كان الظن ونحن شباب نحلم بالتقدم المتسارع أننا سوف نبلغ ما رغبنا في تحقيقه بعد القضاء على هذه الظاهرة التي تجسد بجانبها أو في ثناياها ظواهر أخرى ليس أقلها أهمية الفساد والمحسوبية وظاهرة تراوح موقف الطرف الواحد في مسيرته تراوح سنون المروحة، وظواهر تفضح يومياً ممارسات تكشف عن عجز الإدارة الحكومية وعن الاختراق الرهيب لعمليات صنع القرار السياسي. صارت النخبة بفضل اتساع وكثرة ثقوبها مخترقة وغلب على معلوماتها المزيف قبل الحقيقي والخاص قبل العام والأجنبي قبل الوطني.
يبقى في جانب من الساحة مواطنون كانوا يكتبون. هم الآن لا يكتبون. يزعمون، وهم لا يكذبون، أنهم فقدوا الأهلية للكتابة بعد أن عزّت الفكرة وغاب القارئ واختلطت الدروب في الأذهان وأصاب التشوش مفاهيم عديدة. هناك أمل. فالكاتب لم يرحل ولن يغير جلده، وفي الوقت نفسه يعرف أنه لن يجيد الأداء في شيء كما يجيد الكتابة. الكتابة أيضاً في الانتظار.
جريدة الخليج