«الشعر يُكتَب بالدموع، والرواية بالدماء، والتاريخ بفقاعات الصابون». ص 254 من رواية «لعبة الملاك» للكاتب الإسباني كارلوس زافون.
بعد ذلك، في الصفحة 259 من الرواية، كان الناشر الفرنسي أندرياس كوريلي، الذي قدّم عرضاً مغرياً لبطل الرواية دافيد مارتين، مقابل كتابة نص يؤسس لدينٍ جديد، كان كوريلي يسأل مارتين:
-… بم تعلل ولادة العقائد وأفولها على مدار التاريخ؟
أجاب مارتين:
– لا أعلم. قد أعزو ذلك إلى عوامل اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. حضرتك تتكلم مع رجل كفّ عن الذهاب إلى المدرسة منذ أن كان في سن العاشرة. لا أفقه شيئاً عن التاريخ.
رد كوريلي:
– التاريخ هو مزبلة البيولوجيا، يا مارتين.
قال مارتين:
– ربما كنت متغيباً عن المدرسة، حين شرحوا هذه النقطة.
إذا كان التاريخ يُكتَب بفقاعات الصابون كما يقول زافون في روايته، فهذا يعني أنه يتبخر مثلما تنفجر فقاعات الصابون في الهواء مخلفة رذاذاً سرعان ما يذوب ويختفي.
ربما تكون هذه واحدة من نظريات الكُتّاب التي قد لا يوافق عليها المؤرخون، لكن ما يحفظ لنا التاريخ بحوادثه المختلفة، أياً كانت درجة مصداقية ما نقرؤه منها، هم الكُتّاب بكتبهم ومذكراتهم ورواياتهم التي يتركونها لنا، سواء كانوا جزءاً من تلك الأحداث، أو معاصرين لها، مثلما يروي لنا في مذكراته، الرحالة والمذيع العراقي يونس بحري، صاحب عبارة «هنا برلين حي العرب» الشهيرة، التي أطلقها من «إذاعة برلين العربية» التي أسسها في ألمانيا النازية، بدعم من «غوبلز» وزير دعاية هتلر، لتكون بمواجهة إذاعة B.B.C البريطانية الناطقة باللغة العربية قبل وإبّان الحرب العالمية الثانية. يقول يونس بحري في مذكراته عن سجن أبوغريب، الذي دخله مع رجال العهد الملكي في العراق بعد مجزرة قصر الرحاب عام 1958:
«… وما هي إلا لحظة حتى فُتِحت الأبواب الخارجية، وإذا الحارس رسن، المولج بحراستنا، يفتح باب غرفتنا على مصراعيه وهو يقتاد أعرابياً بلحية حمراء، ويضع على عينيه نظارة سوداء وملابسه قذرة وبدون عباءة، وحذاء أقذر من أرض غرفتنا التي لم تمر عليها المكنسة منذ أجيال.
وما أن فك وثاق الإعرابي حتى قذف به عليّ، فتلقيته بيدي، وأنا أتفرّس في وجهه، فما عتمت أن عرفته، ولم أتمالك نفسي من الصراخ وأنا أبكي من شدة الفرح، وبعد برهة قصيرة سادها الوجوم، مددت يدي إليه مصافحاً: أهلا بك با أبا ليث! لقد أشاعوا بأنهم قتلوك.. وأنهم سحلوك في بغداد!
فقال الدكتور فاضل الجمالي: لقد شُبّه لهم.. لقد شُبّه لهم.. ولكن يا ليتهم فعلوا ذلك لتخلصت من ألم الضرب والتشنيع..».
أبوليث، أو الدكتور فاضل الجمالي، كان واحداً من رجال العهد الملكي الذين سيقوا إلى سجن أبوغريب بعد انقلاب 14 يوليو 1958 في العراق، الذي أطاح بالنظام الملكي، وقُتِل على إثره جميع أفراد الأسرة المالكة العراقية، وعلى رأسهم الملك فيصل الثاني، وولي العهد الأمير عبدالإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد. كان الدكتور الجمالي وزيراً، ثم أصبح رئيساً للوزراء.
كما انتُخِب رئيساً لمجلس النواب مرتين. وكان إلى جانب ذلك مفكراً وكاتباً، يجيد إلى جانب اللغة العربية، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والتركية والفارسية.
وقد ألف ما يربو على 20 كتاباً في مجالات علمية وتربوية عدة، وفي مجال الوحدة والقومية العربية، وكان أول شخصية عراقية تحمل شهادة الدكتوراه في علوم التربية من جامعة هارفارد.
كما كان المخول من الحكومة العراقية بالتوقيع على ميثاق الأمم المتحدة عند تأسيسها عام 1945. لكن الانقلابات العسكرية التي توالت على العالم العربي منذ أربعينيات القرن الماضي، لا تعترف بالشهادات ولا الدرجات العلمية ولا المؤلفات والكتب.
لذلك اعتُقِل الدكتور الجمالي في 14 يوليو 1958 وحُكِم عليه بالإعدام، ثم أُطلِق سراحه عام 1961 ليعيش لاجئاً سياسياً في سويسرا، قبل أن يستدعيه الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة إلى تونس ويمنحه الجنسية التونسية، ويعينه أستاذاً لفلسفة التربية في جامعة تونس. وقد توفي في تونس عام 1997 عن عمر ناهز 95 عاماً، دون أن يرى وطنه الأصلي العراق.
«هنالك أزمنة وأمكنة، أن تكون فيها لا أحد أشرف بكثير من أن تكون فيها أحداً ما». ص 194 من رواية «سجين السماء» للكاتب الإسباني كارلوس زافون.
* كاتب وإعلامي إماراتي
جريدة البيان