تحول البشر في رحلات من اللسان إلى القلم، ومعها تحول القلم عبر صناعة الكتابة إلى مؤسسة عريقة بمثل ما هي عتيقة، وبين العراقة والعتاقة تأسست الفنون الكبرى للإبداع البشري، واستقرت على أربع صيغ كبرى هي الشعر والمسرح والمقالة والرواية، ومثلها خطابات نخبوية كالفلسفة، ولكل صيغة من هذه الصيغ تنويعات متعددة تتفرع عنها وتعود لها، ولم تهتز مؤسسة القلم بصيغها الكلية الكبرى إلا حين جاءت وظيفة جديدة للأصبع عبر لمس الشاشة لدرجة أن مسابقات الخطاطين وتنافساتهم تتحطم أمام منتوجات آلية يصدرها الكمبيوتر بمهارة فائقة ودقة عالية وسرعة خاطفة، وهذه الخصائص الثلاث: المهارة والدقة والسرعة، هي نفسها التي صارت تهدد مجد القلم وصيغه التعبيرية، واهتز عرش الشعر بمثل ما اهتزت صيغة المقال التقليدي، وكذا المسرحية ومعها فنون السرديات، وكلها لم تعد قادرة على منافسة زمن الشاشة إن هي ظلت تعتمد مرتكزاتها العريقة التي أصبحت اليوم تقليدية، فالمقالة خضعت للتحدي لتحل محلها التوريقة، والشعر عاد لزمن ما قبل القلم وجدد علاقته بالصوت والإيقاع الحي، وكذا جرى للمسرحية حيث أخذت تتقمص زمنها الأول، بدمج منظومة مشكلة من مهارات متجاورة يكمل بعضها بعضاً كعودة لمقولة(المسرح أبو الفنون …)، أما السرد فهو مع «تويتر» و«فيس بوك» أضحى على حافة المواجهة اليومية، بما أن «تويتر» و«فيس بوك» أصبحتا منصتين للسرديات الحية، تتشكل وفق اللحظة وبسرعة تسبق نفسها، بحيث تشهد تغريدة مفردة تتحول إلى نصوص تتابعية يشترك في نسج خطوط ترحلها بين الحسابات وكل من حضر القسمة يقتسم، وكان الربيعي في رواية الوشم جرب دمج نصين في تقاطع بينهما وأثارت روايته حينها رد فعل غير قليل، ولكن «تويتر» اليوم يجعل تغريدة واحدة تنطلق لتشكل نصاً ملحمياً مفتوحاً يدوم لبضع ساعات، وقد يمتد لأيام وهو يتناسل مستجمعاً لمشاركين واحداً تلو آخر حتى ليضيع المؤلف الأصل، وتتداخل التغاريد في حدث درامي شاشاتي تفلت فيه الحدود، ولا أحد يملك زمام النص وتحولاته.
هذا حدث ثقافي بكسر مؤسسة القلم وتحتل ثقافة اللمس كراسي القلم واللسان لتنتج حروفاً تتحول إلى كلمات، وإلى جمل، ثم لنصوص مختصرة تشبك أطراف الأحاديث، وتفتح فضاءات القول في اللامحدود.
جريدة الاتحاد