أكد الأديب والقاص العراقي، محمد خضير، أن التأليف التراثي العربي قابل للمحاكاة والتجديد، وأن اللغة ليست وحدها ما يجعل النص جميلاً، بل كذلك طريقة المعالجة، وعلى الكاتب أن يمسك مفكرة يومية لتدوين الأفكار حال مداهمتها لعقله.
مشيراً إلى أن القصة القصيرة تقدم براهين عن الحياة والتجارب. وخضير مواليد 1942م، كاتب وروائي وشاعر، صدرت له مجموعات قصصية عدة، أبرزها «الأرجوحة» عام 1967م. كما نال عام 2004م، جائزة سلطان العويس في دولة الإمارات لمساهمته في الأدب، وشارك في أهم المؤتمرات الأدبية. «البيان» التقت محمد خضير ودار الحوار التالي:
حين أقرأ لك، أجد نفسي أمام نصوص بديعة تعكس تأملاً فتأويلاً، بلغة محفورة بعناية، تجعلني (أرى)، لأعيد ما قرأت، فما مدى جمال وخطورة ما تكتب؟
الجمال والخطورة حدان واردان في بناء أي نص معاصر. اللغة ليست وحدها ما يجعل النص جميلاً وممتعاً، إنما طريقة المعالجة، أي البناء وموضوعه أيضاً. ربما تكون المسألة أبعد من ذلك.
مدى الإضافة العميقة لتراث النص – السردي هنا – واختلافها عن الماضي القريب والبعيد. الالتزام بالقواعد، أو تعديلها أحياناً لتلائم جواً خاصاً للكاتب، ومراعاة خاصة لثقافة القارئ، وقارئ اليوم هو ليس قارئ الأمس. ثمة مشكلات متجددة، إذن _ في الطريق.
كيف يمكننا أن نعي حقيقة تراث النص السردي بتجلياته المتعددة والمتواصلة، بوصفه ممثلاً للجانب التثقيفي والجمالي للذات الإنسانية؟
تراثنا القصصي العربي ضخم وممتع وغزير في بناه وفي تعبيره عن عصره، لكننا عادة ما نهمل الجوانب المضيئة فيه، ونتجاهل خواصه المعرفية وبنياته الجمالية. لذا فإن استعادة تلك الخواص تساعدنا كثيراً في بناء خطاب معاصر ذي خصوصية فنية، ويحقق للذات طموحها بالارتقاء إلى مصاف الخطابات السردية العالمية.
أشير هنا إلى أنواع مندثرة من التأليف التراثي العربي كالمقامات والحكايات والرحلات والرسائل الفلسفية، وفي كل نوع من تلك المؤلفات جانب ثري بابتكاراته وخصوصيته، وقابليته على الاستمرار والمحاكاة والتجديد.
ما هو الباب الذي تفتحه لك القصة عند لقائك بها في منحدر اللغة، فللقاص في أبوابه أسرار وألغاز؟
هذه أبواب القصة، بعدد ثيماتها الكبرى، ومتعة دخولها هو ذاته متعة اكتشاف عالم آخر غير عالم الواقع اليومي، إذ تكمن وراءها لقاءات بشخصيات عديدة من الحاضر والماضي.
ولقد بنيت على هذه الأبواب نظام كتابي (حدائق الوجوه). أعتقد على القاص العربي أن يؤسس لخطابه نظاماً كنظام الأبواب أو الحدائق أو ما أشبه من أنظمة الخطاب القديمة، بدل أن يشتت رؤياه من دون بوصلة أو يجمع قصصه عشوائياً في مجموعة.
هل تؤمن بأن القصة القصيرة أو الرواية أو الشعر لها القدرة على التغيير في ظل الحروب؟
القصة القصيرة نوع تتطابق ممارسته مع الطبيعة الشخصية للكاتب، وهي تطل على الواقع من كوة صغيرة، لكنها قد تقدم براهين بسيطة أيضا على الوجود الكبير والحياة المتعددة الوجوه والتجارب، بعض الأحيان. أظنني عثرت على ما يشبع فضولي تجاه الواقع والعالم بالنظر إلى طبيعتي الشخصية هذه.
ولا ننسى أن هذا النوع كانت له السطوة خلال القرن الماضي في المنطقة العربية قبل التفات الكتاب العرب إلى الرواية باعتبارها رحلة واسعة في التاريخ. بهذا التطويع يمكن للقصة القصيرة أن تشارك الفنون السردية الأخرى في رصد حركة التاريخ وسعة الوجود من موقعها القصي والمتفرد.
حدثنا عن التفاصيل في السرد والمتن الشعري، ومدى أبعادها الجمالية والخلاقة؟
سأحدثك عن تفاصيل النص النثري – القصة القصيرة بالذات – وكيف تنتظم التفاصيل فيها شعرياً، من خلال رسم المشهد، أو الجو، أو دورها في تكثيف الثيمة، وضبط إيقاع تطورها، وصولاً إلى نهاية النص. غالباً ما تزاحم التفاصيل الخط المحوري للحبكة القصصية، لكن أكثرها يترك وراءه أثراً يبقى في الذاكرة.
ولكل تفصيله دور قصير، تصبح بعدها ذكرى في وعي القارئ، بمعنى أنها عنصر تأويلي سيتراجع إلى الوراء، حالما تنتهي القصة. لكن مثل هذه التفاصيل تظهر قبل كتابة القصة أحياناً فتحفز الكاتب على تكوين فكرته أو ثيمته عن حدث ما، أو رسم شخصية بعينها، أو حتى في اختيار عنوان استباقي لا يتزحزح عن مكانه بعد الكتابة.
وفي قصة لي بعنوان (رجل التوافه) عمدت إلى كتابة قائمة بأشياء وانتيكات يقتنيها رجل من السوق، ومنها (طبنجة قديمة من العصر العثماني) لولاها لما تشكلت أبعاد الشخصية وساعدت مع غيرها من الأدوات على رسم نهاية محددة للقصة.
جميل جداً أسلوبك التجهيزي لتفاصيل قصصك، لكن أين تكمن المكائد والورطات أثناء الكتابة؟ ومن أين تستمد مصادرك؟
تكمن المكائد أو تعريجات السرد أو تجهيزاته الداخلية، مع أي تفصيل ومشهد يرسمه النسق الخاص بكل قصة، فيتحقق من ذلك مجموعة مشاهد يتولّف منها النص بما يشبه السيناريو السينمائي، وفي كل مشهد أو تعريجة قد يتحقق إقفال إدراكي جزئي_ في نصف القصة أو في ثلثها_ قبل تحقق الإقفال الفعلي الأخير لأحداث القصة.
بماذا يُعرف محمد خضير الفكرة الإبداعية التي هي أساس؟ وكيف تأتيك هذه الفكرة الإبداعية في كل قصة تكتبها؟
ليست هناك فكرة جاهزة لكتابة قصة، بل إن عملية الكتابة هي مخاض تجربة شخصية أو عامة تولّد سيلاً من الأفكار، قد تصلح واحدة لتتحول إلى نصّ سردي، وقد يتبرأ النص من غيرها بعد أن يستوفي حاجته منها. كما لا تتواتر الأفكار الإبداعية بتسلسل زماني أو مكاني، فالذاكرة تستحضر ما يناسب اللحظة الإبداعية من مخزونها اليومي والتاريخي، وهو مخزون أشبه بعِدل بعير، أو بقوارير دكان عطّار، كما أشرتُ إلى واحد من مصادري.
محمد خضير لـ«البيان»: القصة القصيرة تقدم براهين عن الحياة والتجارب