دفعت بلدية باريس 86 مليون يورو لكي تشتري مبنى البورصة، وتجعل منه صرحاً ثقافياً. أليس من دواعي السعادة، لأمثالي على الأقل، أن يتحوّل مكان للمضاربات المالية إلى منتدى لأهل الأدب والفن؟ وللعلم، فإنَّ هذه البورصة التي تأسست في 1724 كانت محرمة على النساء، وهو حرمان استمر حتى عام 1967، لكن كيدهن يمهل ولا يهمل. ففي مطلع العام الحالي، عُيِّنَت امرأة رئيسة لبورصة باريس.
بطلب من الإمبراطور نابليون بونابرت، شيّد المهندس برونيار قصر البورصة. ومع الزمن، شاخ البناء حتى استقر الرأي على نقل البورصة إلى مكان حديث في الضواحي، وتجديد القصر لكي يكون مقراً لمنتديات ثقافية ومتحفاً إضافياً للفنون المعاصرة، وها هو يستضيف الأعمال الفنية التي جمعها رجل الأعمال الفرنسي فرنسوا بينو؛ ثري ثمانيني يمتلك 56 مليار دولار وشوية فكّة، أنفق بعضها على اقتناء اللوحات. ومن أسباب شهرة الرجل، أيضاً، أنه حمو الممثلة المكسيكية سلمى حايك، زوجة ابنه البكر.
كل ما سبق تفاصيل جانبية. أما لبُّ الموضوع، فهو التمثال العملاق الذي يحمل توقيع الفنان السويسري أورس فيشر؛ إنه يستقر في واسطة المتحف، تحت قبة ترتفع لأربعين متراً، وهو ليس وليد خيال صاحبه، ولا من نحت إزميله. لقد صبّ نسخة شمعية من تمثال إيطالي يعود للقرن السادس عشر للفنان جيامبولونا. ويصوّر التمثال رجلاً يتسلق رجلاً آخر وهو يحمل بين ذراعيه امرأة. وسبب الاهتمام به أنَّه من نوع الفن المؤقت، الزائل، نبصره اليوم وسيختفي في غد قريب.
زرع الفنان فتائل قطنية في أرجاء الشمع، تم إيقادها ساعة افتتاح المتحف. وهناك عامل خصوصي مهمته إشعال الفتائل خلال ساعات الزيارة، والنفخ عليها عند الإغلاق. وبهذا، فإنَّ التمثال الذي دُفِعت فيه الملايين سيذوب في فترة محددة بأسابيع قلائل. وقد نصبوا كاميرات ترصد مراحل اضمحلال التمثال. مع العلم أنَّ هذا ليس أول عمل «يسيح»، بل سبق للفنان أن عرض نسخة مماثلة في بينالي البندقية. ما الذي يجعله يرهق نفسه بتشكيلات قصيرة العمر، تذهب ولا يتبقى منها سوى صور تذكارية؟
يقيم أورس فيشر حالياً في نيويورك، عاصمة الحداثة الفنية، يعرض أعمالاً وتجهيزات غير مألوفة تثير الجدل وتقام لها المزادات، وهو بالتأكيد ليس معتوهاً، بل فيلسوف له نظرته الخاصة لقضايا العصر، مثل الكولونيالية والعولمة وتباين الثقافات. لقد اهتم، مثلاً، بالكراسي وأشكالها وأدوارها في حياة الشعوب. بشر يمضون ثلاثة أرباع حياتهم قاعدين عليها؛ أي جاذبية للكرسي الذي يستميت بعضهم في التشبث به؟
يقدم فيشر للجمهور منحوتات مرصودة للفناء، تسيل بالتدريج وتتشوّه وتفقد شكلها، يختلط عاليها بسافلها حتى تضمحل وتنطفئ، يتحول العمل الفني إلى كتلة صمّاء من دون ملامح. أعمال شمعية تعكس الهشاشة المدسوسة في الأجساد، ما يفعله الزمن في الكائن الحي. ويسمّي النقاد هذا النوع من الفن التدمير الإبداعي. وهو يعيد التذكير بالدادائية، تلك الحركة الأدبية والفنية التي رأت النور في زيوريخ خلال الحرب الأولى. كان الهدف وضع كل المسلّمات موضع المساءلة. وجاء في بيان مؤسسيها: «لسنا سذجاً لنؤمن بالتقدم. نريد إلغاء الرغبة في كل أشكال الجمال وكل أنواع الذوق». وهو قد يكون رد فعل مفهوماً على حضارات تنفق مواردها على البناء، لكي تعيد تدمير الحجر والبشر بالنزاعات والاحتلالات والقنابل النووية والحروب. هل شاهد السويسري أورس فيشر عمائر غزة وهي تتداعى بالحركة البطيئة أمام الكاميرات؟
جريدة الشرق الاوسط