العربية لغة قاتلة! – بقلم سوسن الأبطح

سوسن الأبطح

من يتابع الجدل الدائر في فرنسا، منذ أعلن إيمانويل ماكرون، عن رغبته في تعزيز تعليم اللغة العربية في المدارس، يظن أن لغة الضاد تقتل أو أنها مزودة بسموم تلسع وتلدغ.
مع أن القضية بحد ذاتها قديمة، وعمرها عشرات السنين، إلا أنها في كل مرة تطرح تبدو وكأنها تولد للمرة الأولى لكثرة ما تستثير من حماسة ورغبة في المبارزة. وكان وزير الثقافة الأسبق جاك لانغ الذي يدير حالياً «معهد العالم العربي»، أحد أشد المشجعين أيام الرئيس فرنسوا ميتران، ومع ذلك بقي تأثيره محدوداً. ووضع مؤخراً كتاباً سماه «اللغة العربية ثروة فرنسا»، بقي صيحة في وادٍ.
الحق يقال، لم يقصّر الرؤساء الفرنسيون المتتابعون في تعزيز وضع العربية في مدارسهم، لكن لا تنتظر من غريب أن ينصف لغتك حين تجافيها بنفسك وتلقي بها إلى التهلكة. فقد خلط العرب قبل غيرهم، بين تعليم لغتهم التي لا رفيق لهم سواها في حزنهم وغضبهم ولحظات عشقهم، وقصروها على التعليم الديني، وأضافوا إليها كثيراً من السياسة. وتشكو فرنسا التي استعانت بمدرسين من دول المهاجرين، بأن هؤلاء بينهم متطرفون، ومن يزرعون أفكاراً متشددة لم يعد للدولة أي رقابة عليها. ويريد ماكرون أن تصبح العربية ككل اللغات الأخرى، جزءاً من التعليم العلماني في المدارس الرسمية، وفرصة لتشكيل كوادر وخلق وظائف، وهذا في صالح العرب وأبناء المهاجرين، ومما يغني فرنسا ويضيف إلى انفتاحها.
لكننا نعيش في عالم مجنون، يحكمه التعصب، وتنتصر فيه الثرثرة. فقد وصل الأمر بالأمين العام للحزب الجمهوري أورليان براديه أن يعتبر الفرنسية لغة «جميلة حاملة لقيم الحرية والانعتاق». وتعليم اللغة العربية ومأسستها هو «خطأ» وتصرف «جبان» في الوقت عينه. محاكمة اللغات وتوزيعها بين واحدة «حرة» وأخرى «عبدة»، بين «جميلة» و«قبيحة»، فيما أصبحت العربية بحكم الممارسة اليومية هي اللغة الثانية في فرنسا، وعدد العرب يتجاوز 4 ملايين، فهذا لا يبشر بخير كثير.
أخطأ ماكرون حين طرح في مشروع واحد موضوع اللغة العربية، وتطوير الدراسات الإسلامية الرفيعة في الجامعات، مقروناً بمحاربة التطرف. فقد فتح باباً للمتعصبين العرب من جهة وللمتشددين الفرنسيين من جهة أخرى، ودخل الجميع في جهنم المهاترات.
وحري بالثقافات أن تعامل بإنسانيتها، وأن تحفظ لها نزاهتها، وجانبها الحياتي المترفع. ولم تأتِ لجنة تربوية أو استشارية لتعطي نصحها في وضع قوانين تعالج مشكلات الهجرة في فرنسا، إلا وطالبت بتعليم المهاجرين لغتهم الأم لبناء الثقة بالنفس وتوطيد دعائم الشخصية الذاتية، وترويض العنف عند فئة تشعر بالغبن والدونية. ومع ذلك يخرج السياسيون بأفكارهم الشيطانية، ليكبحوا التسامح ويؤبلسوا كل مشروع مثمر.
ويتعلم أهل كل ملة لغتهم في المدارس الفرنسية، ويبقى العرب خارج القافلة. والعقدة تأتي من أهل اللغة قبل غيرهم، الذين باتوا لشدة الاتهامات، يفضلون تعليم أولادهم الصينية على لغتهم الأم. ولا يتعلم في فرنسا سوى 14 ألف تلميذ العربية في النظام الرسمي، درءاً لتهمة تكلم لغة لم يعمل أحد على رفعها إلى مستوى يليق بتاريخها وإرثها.
«العربي الجيد هو الذي يفعل ما يطلب منه، يطيع، ولا يتأفف. هو الذي يتحدث بفرنسية أفضل من العربية. العربي الجيد هو مثلي، لا يبدو عربياً، كما كان يحدث أيام الاستعمار».. هكذا اختصر المعضلة الصحافي في جريدة «لوموند» نبيل واكيم في كتابه المؤثر جداً «العربية للجميع» الصادر في حمى وطيس هذا الجدل الصاخب، حول موضوع يفترض أن يعالج تربوياً واجتماعياً، لا في كهوف سياسات تنتمي إلى القرن الماضي.
استفاق هذا الصحافي من أصل لبناني، على أعتاب الأربعين على واقع مؤلم، هو أنه يتحدث 3 لغات، الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، لكنه هو الذي أجبرت الحرب الأهلية والديه على الهجرة إلى فرنسا، لا يعرف من العربية أكثر من بضع جمل بالكاد تكفيه للتعامل مع سائق تاكسي، أو طلب طبقه المفضل في مطعم بيروتي. وفي كتابه الذي يقدم بسلاسة وعمق دروساً في العظم لكل أولئك الذين يريدون الخلط المجحف، بين ما هو ثقافي صرف، وكل الموبقات الأخرى التي تنضح بها الانتهازية، والغباء التطرفي، يحكي عن خجله من لغته التي كان يسمعها في البيت، عن رغبته الجامحة وهو مراهق في مداراة هذا الانتماء المعيب. وعن خجله من نفسه بعد ذلك، وهو يسمع جدته في لبنان تؤنبه لأنه لا يتكلم العربية. والخجل يتواصل بنكهة أخرى، لأنه غير قادر على نقل هذه اللغة إلى أولاده، أو أن يستفيد منها كصحافي في الاستماع إلى وسيلة إعلامية عربية، أو إجراء مقابلة. إنه الإحساس بالخسارة الفادحة بعد فوات الأوان. واكيم لم يصبح فرنسياً لأن اسمه لا يمكن مدارته، وليس لبنانياً كذلك، لأنه لا يمكنه التواصل مع من لا يتكلم لسانهم.
تلك هي المعضلة، ولا شأن لها بالإرهاب، و«الإسلام الذي يعيش أزمة في كل مكان في العالم»، أو ما سماه ماكرون في خطابه الشهير الذي أثار غضباً «الإسلام الانفصالي». فإن يكون أئمة قد استغلوا مهمتهم في تعليم العربية لخلط الأوراق، فهذا يجب ألا يدفع ثمنه أطفال صغار، جلّ ما يحتاجونه هو الانفتاح والمعرفة، ولا علاقة لهم بـ«شارلي إيبدو»، ولم يسمعوا عن الرسوم المسيئة.
نلوم فرنسا، ربما، لكن الخطيئة الكبرى عربية أولاً، فمن لا يقدّر جمالية لغته، ويحرص على أن يجعلها حيّة، متوثبة، على ألسن أطفاله، لا يحق له أن يطلب من الآخرين وضعها على جدول أولوياتهم.

جريدة الشرق الأوسط