عرف المثقفون في الشرق والغرب أنواعاً كثيرة من الاتصالات، في مراحل متعددة ولأسباب مختلفة، بدأت قبل ظهور الإسلام في الشرق، فكانت حركة الرحالة الغربيين تمثل حركة داخل الامتداد الجغرافي والسياسي التابع للدولة الرومانية، سواء في شمال أفريقيا وشمال الجزيرة العربية وجنوبها، يتداخل ويتصارع أحياناً أخرى مع نفوذ الدولة الفارسية، ومع القبائل التي تقاسمت الولاءات السياسية والثقافية، فكانت مناطق مثل الرها وحران والإسكندرية وغيرها ملتقى الأفكار والمثقفين من شعوب الشرق والغرب.
وبعد قرنين من العهد الإسلامي، وتأسيس حضارة عباسية كبيرة في الشرق نظر إليها المثقفون الغربيون على أنها مرحلة اكتفاء ثقافي، ولكن سرعان ما بدأت مرحلة التلاقي الثقافي عبر حركات الترجمة، التي تولاها أمراء الدولة في الشرق بالتعاون مع المثقفين من ذوي أصول غربية أو من أبناء البلاد المتقنين للغات اللاتينية وغيرها.
تواصل تلاقي المثقفين عبر مدن الالتقاء الحضاري التاريخية في الأندلس وصقلية وقبرص وغيرها، وأصبح المثقفون الغربيون من مفكرين وفلاسفة باطلاعهم على أفكار الشرق التحريرية قادرين على خوض غمار ثورات الإصلاح الديني، ثم في حركات التنوير وتأسيس الفلسفات الإنسانية التي نشأت عليها الحضارة الأوروبية المعاصرة، مثل كتب ابن حزم وابن رشد وابن طفيل وابن ميمون وغيرهم، وكانت فلسفات جان جاك روسو وديكارت وإيمانويل كَانَتْ وغيرها تنهل من كتب المثقفين المسلمين، كما بيّن ذلك عدد كبير من مؤرخي الفلسفة الغربية الحديثة.
ولما جاءت مرحلة الاستشراق والاستغراب لم يكن من بد أمام المنصفين من المستشرقين إلا الاعتراف بالتأثير الكبير للحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية الحديثة، وأنها كانت صاحبة الفضل في إرساء حجر الأساس للحضارة الأوروبية الحديثة، حيث أسهمت بكنوزها في الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء في تأسيس عصر النهضة، فمثلاً يقول توماس أرنولد: «كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتُبدد غياهب الظلام الذي كان يلف أوروبا في القرون الوسطى»، وقال جورج سارتون في كتابه مقدمة في تاريخ العلم: «إنّ الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون، فالفارابي أعظم الفلاسفة، والمسعودي أعظم الجغرافيين، والطبري أعظم المؤرخين».
هذه الشهادات العلمية التاريخية لا ينبغي أن تبقى في دائرة الاعتراف بالتقاء المثقفين حضارياً وأخذهم عن بعضهم البعض، وإنما ينبغي البناء عليها لصناعة مقاربات معاصرة بين المثقفين من الشرق والغرب، قبل غيرهم لجعلها خصوصية منهجية وعلمية يتصف بها المثقفون في الشرق والغرب معاً، وبعيداً عن فلسفات الصراع الحضاري الذي تلبس بها البعض لخدمة أجندة غير ثقافية، وكان من نتائجها خوض حروب خاسرة على الجميع حتى اليوم.
صحيفة الرؤية