تكمل الروائية اللبنانية علوية صبح في روايتها الجديدة “أن تعشق الحياة” الصادرة حديثاً عن دار الآداب اللبنانية، انشغالها بأحوال الجسد ليكون البطل كما فعلت في روايات “دنيا”، و”مريم الحكايا”، و”اسمه الغرام”، لكن هذه المرّة أبحرت الكاتبة الحاصلة على جائزة “مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية”، إلى أبعد من الوظيفة الاجتماعية للجسد لتسرد تحوّلاته وانعكاسات ويلات السياسة والتطرّف وانهيار النظم الاجتماعية والأمراض العصبية، عليه.
من خلال جسد بسمة بطلة الرواية التي تصاب بمرض عصبي يعطب طموحاتها كراقصة تعبيرية ترفض الاستسلام، تروي صُبح بلغة المتكلم سيرة أوطان مزّقتها الذكورية والاستبداد والتطرّف وتوالي الهزائم والحروب غير المجدية.
وعبر قصص شخصياتها التراجيدية المركبة والمنحوتة بعناية، تحكي عن الفرد الذي يخوض معارك خاسرة، وعن جيلها من اللبنانيين التقدميين الذين صدموا بانهيار مشروع الحداثة في الحرب الأهلية اللبنانية، وعن خيباته المتتالية الشخصية والسياسية والاجتماعية منذ الستينيات، إلى الثورة الخومينية، وصولاً إلى تحوّل لبنان إلى دويلات يحكمها السلاح، وصولاً إلى دخول داعش المنطقة.
وتتنقل الكاتبة مبحرة بالزمن استباقاً أو عودة إلى الماضي بخفة عجيبة ولغة سلسة تجنح نحو الشاعرية على الرغم من حضور التراجيديا في الحكاية، ضمن لحمة وبنية وحركة الرواية المتماسكة.
ليست سيرة ذاتية
كل ذلك على لسان بسمة التي تمثّل بمرضها المؤلم وتجربتها القاسية تجربة الكاتبة الذاتية مع المرض، فإلى أي مدى تتماهى البطلة مع الكاتبة، وهل الرواية جزء من سيرة ذاتية أم لا.
تقول صبح في مقابلة مع “الشرق”: “تتسرب أشياء من حياة كل كاتب في رواياته بشكل أو بآخر دون أن يكون ذلك سيرة ذاتية، كل ما له علاقة بحالة بسمة الصحية هي حالتي أنا شخصياً وتصف تحديداً المرض العصبي الذي أصبتُ به، إضافة إلى تجربتي المرضية في الحرب الأهلية، ومرضي في الطفولة”. وتؤكد: “عدا ذلك فهى من أكثر رواياتي قدرة على التخيل، تتقاطع حياتي الصحية مع حياة بسمة الصحية، بل أمثلها وليس فقط أتقاطع معها، لكنها ليست سيرة ذاتية”.
ولماذا اختارت صُبح صيغة المتكلم؟ تجيب: “هذا السؤال يحيرني دائماً، حتى الآن لم أستطع كتابة رواية إلا بصيغة المتكلم، ربما ستكون روايتي القادمة بصيغة الغائب، لكن عندما كنت أكتب “أن تعشق الحياة” فكرت بأنني أشعر بما تشعر به بسمة بطلة الرواية وأتخيل نفسي هي، وأندمج في شخصيتها وأتقمصها”.
أروي لأعيش
لكن كيف استطاعت صُبح التركيز لكتابة هذه الرواية الأشبه بالملحمة وهي في حال صعبة كما تصف لنا في الرواية؟ تقول: “كنت أشتغل على رواية أخرى وقطعت شوطاً طويلاً فيها حين أصبت بهذا المرض، ولم أستطع أن أكتب أي شيء بمعزل عن جسدي الذي كان متشنجاً وقدرته العصبية منهارة، فأوقفت تلك الرواية وبدأت كتابة “أن تعشق الحياة””.
وتضيف: “كانت إرادتي قوية في الحركة والمشي وكنت أذهب إلى المقهى يومياً لأكتب، لكن المهدئات كانت تشل قدرتي على التفكير، فوجدت أكثر من 30 دفتراً فيه كلمات لا علاقة لها بالأخرى لأنني لم أكن قادرة على التركيز، وأحياناً كنت أبدأ بجملة وأنسى ما سأكمل، وعلى الرغم من كل شيء، الرواية كانت تدور في رأسي وأتخيلها وأرسمها وتتوالد شخصيات لم أكن أتوقعها”، وتتابع “ربما لأن الكتابة فعلاً تعادل حياتي، وإذا كان ماركيز يقول “عشتُ لأروي”، فأنا أقول أروي لأعيش، تعذبت كثيراً في الكتابة وبكيت كثيراً لدرجة أن الأوراق التي كنت أكتب عليها كانت تتبلّل أحياناً”.
تلازم بين المرض ودمار المدن
في تلك الفترة كان جسد علوية صبح يرتجف وهي تتابع تداعيات الربيع العربي وتتأثر به سائلة نفسها “هل أمرضتُ نفسي أم أمرضتني بلادي؟”، وتشرح: “كنت أشعر بتشابه فظيع بين ما يحدث في جسدي من انهيار، وما يحدث في البلدان العربية من حروب وانهيارات، واستطعت في الرواية أن أعبّر عن هذا التلازم بين جسدي وجسد المدن العربية”، وتضيف: “إنها الفكرة الأساسية في الرواية ولكن بالطبع بشكل سردي روائي، وكانت مخيلتي تأخذني إلى أماكن لم أكن أتوقع التعبير عنها، فكانت الكتابة تقودني ولست أنا من يقودها”.
الكتابة للاحتفال بالحياة
بهذا المعنى كانت الكتابة فعل شفاء؟ تجيب صُبح: “عندما أكتب أستعيد ذاتي وأشعر بكينونتي أكثر مما هي علاج نفسي، أشعر أنني أسترد شيئاً من شفائي، ولكن لم أكتب هذه الرواية مثل كثير من الروايات للخروج من الكآبة، كلا أنا لم أكن مكتئبة، ولكن الشفاء هو أنني استطعت أن أشعر بأنني حية، استعدتُ نفسي ككاتبة واستعدت قدرتي على التركيز واستعدت الإحساس بوجودي”.
وتؤكد “الرواية رغم كل الآلام والتراجيديا هي احتفال بالحياة، نجد أن البطلة مصرة على المقاومة وعدم الاستسلام وتجاوز مرضها، مصرّة على استرداد ذاكرتها وجسدها، لأنها تعشق الحياة”.
المرأة.. بحث دائم عن الحرية
وعن اختيارها مهنة الرقص للبطلة، تقول: “الرقص كان مدخلاً لشعور البطلة بالحرية، أن تصاب راقصة بعطب في جسدها فهذا منتهى الألم، الألم الذي كنت أشعر به”.
في روايات صُبح هناك دائماً امرأة تتوق إلى الحرية، لكن في “أن تعشق الحياة” “تعلمت البطلة كيف تكون حرة من خلال الرقص، فمن الصعب وجود إبداع من دون حرية”.
جسد بسمة هو البطل الأساسي، ولكن تتفرّع منه أجساد أخرى مشكِّلة انعكاساً لأحوال المنطقة وتحولاتها؟ تجيب صُبح: “نعم بل هي أجساد ومصائر، وكنت صريحة وجريئة في كسري لتابو السياسة ونقد الأنظمة الاستبدادية كما الدواعش والأحزاب الطائفية والمتطرفة، إضافة إلى نقد حتى التجربة الفلسطينية في لبنان من خلال شخصية عيسى، المرافق لزعيم فلسطيني، ربما في هذه الرواية حكيت عن كل الأزمنة التي أعطبت البشر في مكان ما، في أجسادهم أو عقولهم”.
كل ما جرى فيما سمّي الربيع العربي، بحسب صُبح، ردّها إلى “كل التجربة المجتمعية والسياسية خلال 50 سنة ربما، ولكن ليس السياسة وحدها بل سلسلة من النظم الاجتماعية والنظم البطريركية، خصوصاً فيما يتعلق بالمرأة والإنسان العادي، العقائد والمعتقدات الشعبية، التطرّف الديني الإرهابي من كل المذاهب”.
جرأة في نقد التطرف والسياسة
تعتبر الجرأة سمة علوية صبح في الكتابة، فهي تؤمن بأن “حرية التعبير أساس بناء الإنسان”، ولكن ألم تخف من رفع السقف في وجه مجموعات وأحزاب لبنانية متطرفة؟ تردّ الروائية المتمرّدة ضاحكة: “قد أكون من القلائل الذين سمّوا الأشياء بأسمائها وهذه حقيقة لا يجدر بنا الخوف منها، هذا نقد سياسي يضمنه لي الدستور اللبناني، نعم انتقدتُ الخوميني، وحزب الله، والدواعش، والأنظمة التي تحكمنا، لأنني أعتبر أن التطرف واحد، والدواعش موجودون في كل المذاهب هم ذاتهم متشابهون خاصة على المستوى الاجتماعي وما يتعلق بالمرأة وما يتعلق بتفكيك المجتمع العربي”. وتؤكد: “الرواية تنم عن وجع نفسي، لأنني إنسانة أؤمن بعروبتي وبإنسانيتي وبحق البشر في العيش أحراراً بالمعنى المسؤول للحرية، وأن يبنوا إنساناً وأوطاناً، فلا يمكن بناء وطن دون بناء إنسان، فإذا كان الإنسان مخرّباً فكيف يمكن أن يبني وطناً سوياً؟”.
حفر الشخصيات تقود إلى الاكتشاف
تُحيك صبح شخصيات رواية “أن تعشق الحياة” المركبة المتنوعة والمتخيلة لتجمعها في مجتمع واحد بشكل مكثّف، فهي “مهتمة بالإنسان في الرواية، بالدرجة الأولى”، وتقول: “لذلك أقوم بعملية حفر تقودني إلى الاكتشاف، لم أشعر يوماً أنني أكتب لأنني أعرف، بل أشعر أنني أكتب لأكتشف”، وتتابع: “أعتقد أنني استطعت أن أغوص وأحفر في دواخل النساء والرجال، مثلاً أذكر أنني حين كتبت عندما سُجن حبيب بسمة وزوجها يوسف في سوريا، حفرت في مسألة الخوف عند الإنسان العربي، ووصفت كيف يشعر الخائف”.
كسر الصوت الذكوري في الأدب
فعل الكتابة عند صبح هو عملية اكتشاف للذات والآخرين والمجتمع، وهي تعتقد أن “اكتشاف الأشياء يوصلها إلى المعرفة الإنسانية والفنية”، أما مشروعها الأدبي فتقول عنه: “أن أُنطق المرأة ما لم تنطقه في الكتابة، أن أبحث في الأماكن القصيّة المعتمة في ذوات النساء والشخصيات، أن أواجه المجتمع بالجرأة الفنية والإنسانية، أن أحكي عما هو مختبئ وغير مدرك في حياة النساء كما الشخصيات الذكورية”.
وتستشهد صبح، بعالم النفس سيجموند فرويد الذي يقول إن “المرأة غابة سوداء”، لتضيف إليه: “أنا أحب أن أضيء هذه المنطقة المعتمة، لأن النساء قلّدن الرجال في طريقة كتابتهنّ، فالمرأة في منطقتنا ترى صورتها كما رسمها الرجل الذي يمثل المجتمع الذكوري البطريركي”، وتشرح “الرجل يتحدث عن المرأة بالصورة التي يراها هو عبر فانتازماته (خيالاته أو أشباحه) في الرواية العربية عموماً، أقول عموماً، طبعاً هناك استثناءات، فنراها كائناً للغزو ومفعول به، ومتلقي، فهي أداة تفرحه كيف عبّر عنها ليس كحقيقتها. وتؤكد: “أنا أكسر الصوت الذكوري في الأدب العربي عند الرجال أو عند النساء”.
الخيال يعيد إنتاج الواقع
تؤكد الكاتبة: “ليس الجسد فقط ما يشغلني في رواياتي، إنه عنصر حيوي موجود، لكن بالطبع هناك قهر النساء وتعنيفهن وتعرضهن لكافة أشكال التعنيف العاطفي والمعنوي والجسدي واللفظي، وهناك كسر الصورة النمطية عن الأم التي عبّرت عنها في كل رواياتي”، كل تلك النماذج تستقيها صُبح من الواقع، إنما “ليس بواقعية تبسيطية، الخيال سمة قلمي وهو يعيد إنتاج الواقع بشكل فني نابض وحي في عملية السرد”.
الشعر في خدمة السرد
“أن تعشق الحياة” رواية تحمل ثقل الواقع التراجيدي الذي تمثله بشكل واضح شخصية يوسف زوج بسمة الذي كان علمانياً وفناناً ورساماً ثم أصبح يعيش في العتمة في كنف حزب الله وكانت نهايته مأساوية، لكن وسط هذا السواد المجتمعي والفردي عند الأبطال، هناك بسمة التي تتغلب على كل هذه المآسي بالرقص والحب والحكي، تختار بسمة في نهاية الرواية طريقاً مزهرة جديدة معلنة إقبالها على الحب من جديد، والحكي هنا له وظيفة، كما تقول علوية صبح: “أؤمن بأن للحكي قدرة سردية هائلة فنياً، وهذا الحكي وسيلة لسرد خلاق، لذلك نجده في رواياتي كافة”.
تعتمد صبّح في “أن تعشق الحياة” لغة سرد مفتوحة متقطّعة، ولغة شاعرية، لماذا؟، تجيب الكاتبة: “إن السرد المتنوع يخدم بناء طبقات متعددة في الرواية رغم قساوة بعض المشاهد التراجيدية، مثلاً مقابل اللغة المؤلمة هناك لغة تجنح نحو الصوفية وهناك لغة تجنح نحو الشاعرية”، وتضيف: “كنت في رواياتي السابقة أطرّي اللغة القاسية بالسخرية، ولكن في هذه الرواية غابت السخرية وحضرت اللغة الشعرية، ربما لأن مرضي شفّني كثيراً وربما لأنني بدأت حياتي كشاعرة قبل أن أكون روائية، ولكن الشعر هنا في خدمة السرد الروائي وليس العكس”.
علوية صبح
جريدة الشرق