تقول القابلة العجوز «آنا»: مزيداً من الماء الساخن يا «أولاي».
تقول: ولا تتسمر هكذا عند باب المطبخ يا رجل.
يقول «أولاي»: لا بأس لا بأس.
وتسري حرارة وبرودة في جسده، وتملأ فرحة كيانه، فتنسكب دموعه وهو يذهب إلى الموقد ويشرع في سكب الماء الساخن في دلو ثم يزيده، نعم يفكر «أولاي» ويصب مزيداً من الماء في الدلو، ويسمع القابلة «آنا» وهي تقول لا بد أن هذا يكفي الآن، ويرفع «أولاي» نظره، وها هي القابلة العجوز «آنا» تقف بجواره تماماً وتأخذ منه الدلو، وفجأة تُسمَع صرخة مكتومة تصدر من غرفة النوم، فيمعن «أولاي» النظر في عيني القابلة «آنا» ويومئ لها، وتلوح على وجهه ابتسامة، بينما يقف هناك من دون حراك.
يقول «أولاي»: إذا كان ولداً، سنسميه «يوهانس».
تقول القابلة «آنا»: سنرى.
يقول «أولاي»: «يوهانس» نعم.
يقول: تيمناً باسم أبي، نعم.
تقول القابلة العجوز «آنا»: ليس هناك ما يعيب الاسم.
يقول «أولاي»: وسيكون صياداً، سيكون «يوهانس» مثل أبيه تماماً.
تقول القابلة العجوز «آنا»: هذا شيء طيب.
هكذا يمضي الكاتب النرويجي «يون فوسه» واصفاً لحظة ولادة «يوهانس» في روايته «صباح ومساء» حتى يصل المشهد الأخير من جزئها الأول، الذي ينتهي بولادة طفل سليم البدن، جاء إلى الدنيا بشكل طيب وصادق.
في الروايات العادية كنا سنتعرف على ما سيفعله «أولاي» منذ لحظة ولادة ابنه «يوهانس» وكيف ستسير أمور الحياة معه، أو سنطّلع على ما سيفعله «يوهانس» في مراحل حياته المقبلة، لكن «فوسه» يكسر هذه القاعدة في روايته الاستثنائية هذه، فيعبر بنا في الجزء الثاني من الرواية مباشرة إلى آخر يوم في حياة «يوهانس» الذي كنا بالكاد قد سمعنا صرخته وهو يخرج إلى الحياة في الجزء الأول منها.
استيقظ «يوهانس» وشعر بشد في عضلاته، وظل راقداً في سريره لفترة طويلة، وهو يفكر في أنه يجب أن ينهض من السرير. لا يمكنه أن يبقى في البيت لأن كل شيء فيه أصبح خاوياً باهتاً منذ وفاة زوجته «إرنا» كأنها لم تترك وراءها أي دفء يذكر عندما رحلت. نعم يمكنه أن يشعل الموقد، ويمكنه أن يشعل جهاز التدفئة الكهربائي، لا بأس فهو معتاد على أن يجعله يعمل بأقصى طاقة له، إنه لم يعد يقتّر، لم يعد لذلك داعٍ، ليس منذ أن بلغ من العمر ما يكفي ليتسلم تأمينه الاجتماعي.
أشياء كثيرة فعلها «يوهانس» منذ أن استيقظ خفيفاً في ذلك الصباح، أشياء كان يفعلها طوال حياته، خاصة بعد وفاة «إرنا»؛ أعد لنفسه شطيرة من جبن الماعز، وغلى قهوته، ودخن عدداً من السجائر، ثم خرج من بيته، وفكر أن يمر ليرى ابنته «سيجنه» ليحتسيا القهوة معاً، ويتبادل معها أطراف الحديث، لكن «سيجنه» لن تكون مستيقظة باكراً هكذا، لهذا يجدر به أن يذهب شطر «فوجن» في الغرب ويلقي نظرة على القارب، لعله يستطيع أن يخرج به لرحلة قصيرة، لأن الطقس ليس بهذا السوء. فعل «يوهانس» منذ أن استيقظ خفيفاً في ذلك الصباح أشياء كثيرة يطول سردها.
كانت «سيجنه» تحاول أن تهاتف والدها طوال النهار، لكنه لم يكن يرد، ويزداد قلقها عندما يتصل بها الجار «تورسات» ليقول إنه لم ير «يوهانس» طوال النهار، وليس هناك أي مصابيح مضاءة في المنزل. عندما تصل «سيجنه» إلى بيت والدها وتفتح الباب الخارجي بالمفتاح، الذي معها، وتدخل الرواق تجد النور مطفأً، فتوقد مصباح الرواق، ثم تفتح باب المطبخ وتشعل المصباح، وهناك على دكة المطبخ يوجد قدح القهوة الخاص بأبيها، ويبدو كأنه لم يُستعمَل، والمنفضة على طاولة المطبخ أمام مقعده، وكذلك جراب التبغ وعلبة الثقاب، فهو لم ينهض إذن من سريره في ذلك الصباح!
تقول «سيجنه» للطبيب الذي استدعته لفحص والدها: إنه راقد هناك في الكوة، خلف الستار.
يومئ الطبيب، ويزيح زوجها «لايف» الستار، ويدخل الطبيب و«لايف» وراءه.
يقول الطبيب: نعم، فعلاً لقد مات.
يقول: لقد مات في هدوء وسلام.
يقول: لا بد أن ذلك حدث أثناء الليل، أو ربما باكراً في الصباح.
تقول «سيجنه»: نعم في الصباح الباكر.
تقول: ولكنه لم يحاول أن ينهض من سريره.
يقول الطبيب: لا يبدو ذلك.
يقول: قد يكون قد أسلم الروح وهو نائم.
نقول نحن القُرّاء: ومن الذي فعل إذاً كل تلك الأشياء التي فعلها «يوهانس» في ذلك الصباح من دون أن ينهض من سريره؟!!!
ثمة أشياء لا نستطيع فهمها، لأننا لم نجربها بعد، والذين جربوها ذهبوا ولم يعودوا ليقولوا لنا.
الذين جرّبوها ذهبوا ولم يعودوا – بقلم علي عبيد الهاملي
جريدة البيان