” الدكتور نازل ” أو كتابةُ المناطق البينيّة غير العازلة – بقلم أنيس الرّافعي

أنيس الرّافعي
الدكتور نازل – طالب الرفاعي

 

“بلدنا لا يعاني من قلّة الأموال، بل من كثرة اللّصوص!”

إدواردو غاليانو

كثيرةٌ هي المزيّات الجماليّة ، و السمات النوعيّة، و الخصيصات الأسلوبيّة، التي يقدمها لنا الكتاب القصصيّ الجديد للأديب الكويتي طالب الرفاعي ، والموسوم ب ” الد كتور نازل ” (منشورات ذات السلاسل ، الكويت ، 2023) . مزيّات و سمات و خصيصات شائعة كالجذامير العموديّة أو الأفقيّة السارية بين صلب و ترائب المتن الحكائيّ ، المشكّلِ من24 حلقة سرديّة ، وذلك من قبيل : الجملة الحدثيّة الومضيّة البارقة المسطورة بحدّ السكين / و اللّغة القصصيّة المهجّنة المسبوكة المازجة بين حذق الفصيح و بلاغة الدارج، وبين استطيقا الكتابيّ و معياريّة الشفهيّ / و التوظيف البارع للأمثال الشعبيّة و الموروثات الغنائيّة و الشعريّة المحليّة / و السخرية المؤسّسة على مداميك التغريب و المفارقة و التقابلات الدلاليّة على صعيد المواقف و الأفعال و الشخوص / و فتح مروحة الجنس القصصيّ على سعتها صوب طروس تخصيبيّة و مراجع إحاليّة من قبيل القصاصة الصحفيّة و الشائعة و الرسالة و وسائل الاتصال السبرانيّة / ثمّ التقطيع و التشذير السرديّ سواء على مستوى الخبر أم الزمن ….

بيدَ أنّ الإضافات الجوهريّة، التي يعرب عنها هذا الكتابُ القصصيّ اللاّفت مبنى ومعنى و تشخيصا ، يمكنُ القبض عليها داخل نطاق البنيات والمرتكزات الفنيّة الآتية :

أولا: الشخصيّة النمطيّة الفارزة ، المتجسّدة في ” الدكتور نازل ” . وهي شخصيّة تعاقبيّة متناسخة ، محمّلة برمزيّة الفساد الآدميّ العاتي ، تسعى بين أوصال و مفاصل المتتالية القصصيّة ، بوصفها نقطة ترسيخ انتقاليّة تكفلُ تجسير المواصلة بين أرخبيلات المحكيات . التجسيرُ عينه ، الذي عمل على تلويث صفاء النوع ، و خلق تمفصلاً جذّابا بين القصة و الرواية ، لدرجة يمكننا القول معها إنّ المبدع طالب الرفاعي يكتب في منطقة بينيّة رماديّة غير عازلة ، كما لو أنّها محطّة انتظار مزوّدة بباب دوّار يتيحُ الذهاب والإياب بين الوقائع و السّجلات ، و المضيّ في اتجاه عقارب ساعة الحكي أو عكسها .

ثانيا : تبصير السرد عن طريق بلورة انثيالات لامنقطعة من الصور و المشاهد و اللّقطات و الكادرات ، التي تتجاورُ فيها عناصر منسجمة و أخرى متنافرة سواء حكائيّا أو لغويا . فطالب الرفاعي يلوح في هذا العمل المتباين عن بقية مجموعاته أو مختاراته السابقة ، كصاحب حانوت عطارة قصصيّ جهنميّ ، يخلطُ القريب بالمتباعد و العاديّ بالملغز و المتوفّر بالنادر و المحليّ بالكونيّ . التبصير السردي ذاته ، الذي هو دون ريب نتاج ذاكرة انتقائيّة و انتقاليّة مرئيّة و تصويريّة لا تخطئها العين الحصيفة . وبموجب هاته الذاكرة الثريّة ، يستحيلُ القاص /الصانع إلى فنّان مونتاج يمارس كامل أنواع الحذف والازاحة والتحوير على الأحداث و الوقائع ، كي تصير مقذوفة إلى الأمام صوب الديمومة و المستقبل ، أو متواشجة مع ذاكرتها القريبة أو البعيدة.

ثالثا : التخييل الذاتيّ المرتبط بذات المؤلّف ومعيشه اليوميّ، و مواقفه الفكريّة و الأخلاقيّة الفعليّة و كينونته كمنتج رمزيّ ، ثمّ استضماره بوصفه خطابا ميتا – قصصيّا بنائيّا في خواتم الحلقات السرديّة . إذ يغدو صوتُ طالب الرفاعي شخصيّا أو تعليقه قفلا للمحكي و في الآن ذاته تأويلا بعديّا لقصديته المباشرة أو لمسكوته المتنائي. هذا الخطاب الميتا- قصصيّ الذي أضاف بعدا ثالثا للايقاع القصصيّ وتوزيعه الهندسيّ ، فعلاوة على إيقاع السرد و إيقاع الأسلوب، انضاف إيقاع الذات إلى هذا الترس الخياليّ ، الذي أضحى يشتغل بطريقة مكعّبة ، تترجم قدرة النص القصصيّ العربيّ على توسيع مسامّه و تطوير روحه الباطنيّة و تفتيق ممكنات جديدة و مداخل مستحدثة للانطلاق به صوت مساحات بكر من الخلق و المغايرة .

خلاصة القول ورحيقهُ ، يرتهنُ الكدح السرديّ للمبدع طالب الرفاعي في كتاب ” الدكتور نازل ” القصصيّ بشقاء الأثر المفكّر فيه برويّة وتقصّد ، ذي الصلة الوكيدة بانتهاك اليقينيات الباليّة و المتقادمة للكتابة ، كونه سعى للبحث عن مسالك غير مطروقة ، وعن أراضي يتعذّر على العاديين الالتحاق بها ، وعن أمشاج مبتكرة للمتخيّل . إنّها بلا غرو مغامرة جماليّة داخل كثافة اللانهائيّ و غابة الشكوك و قلق اللاّمستقر ، يقف القاص طالب الرفاعي في قلبها مباشرة مثل لاعب الكريّات في لوحة الفنّان ( مارك شاغال ) ، مستنداً إلى ِرجل واحدة زرقاء اللّون ، ومتصوّراً نفسهُ طائراً لهُ منقار أصفر و حوصلة حمراء ، يحمل بيده اليمنى ساعة حائط معطّلة جفّ الزمن بداخلها بغتة ، و يبسطُ يده اليسرى في اتجاه الواقع لينشغلَ برسم الحيوات و تنضيدِ المصائر و كشفِ حُجب الأسرار .

” الدكتور نازل ” أو كتابةُ المناطق البينيّة غير العازلة