«ماذا يحدث بحارتنا؟»، «إنها الشوطة، تجيء لا يدري أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب الله له السلامة».
«لا يفرق هذا الموت الكاسح بين غني وفقير، أو قوي وضعيف، أو امرأة ورجل، أو عجوز وطفل، إنه يطارد الخلق بهراوة الفناء».
هكذا صور نجيب محفوظ في روايته «الحرافيش» الأجواء المقبضة، التي سيطرت على «حارتنا»، «بلدنا» فيما يقصد، كأنه يتحدث عن العالم في ما نراه الآن تحت وطأة فيروس كورونا المستجد.
لم تكن نوازع الخوف عند البشر أمام المجهول الغامض موضوع الرواية بقدر استكشاف فلسفة الحياة في مواجهة الموت، أصول الحكم وضرورات العدل، فإذا لم تقترن القوة بالعدل فإنها تخرق «أصول الفتونة» كما أرساها في الرواية عاشور الناجي، الذي أفلت من براثن الموت في الحارة المنكوبة ليفتتح زمناً جديداً تعددت رواياته جيلًا بعد آخر.
بصورة مقاربة فإن العالم بأسره أمام زمن جديد يوشك أن يولد من بين براثن الخوف والفزع الذي ينتاب جنباته تحت وطأة «كورونا».
نحن أمام مشروع تجسيد لا سابق له لمقولة «وحدة المصير الإنساني»، إنه عالم واحد ومصير مشترك.
بعد أن تنقضي التجربة المفزعة لن يبقى العالم كما كان قبلها، لا في نظرته إلى نفسه ولا في طبيعة علاقاته الدولية وأولويات قضاياه، كأنه خروج عن النص القديم.
في المشهد المفزع يتبدى نوع مستجد من العولمة، عولمة الأوبئة، كأنها «شوطة» بتعبير المصريين في الأزمان القديمة تضرب الكرة الأرضية، لا حارة أو رقعة جغرافية لا تتعداها.
عولمة الأوبئة استدعت قدراً من الانغلاق في مواجهتها كإغلاق الحدود وتخفيض حركات الطيران والتنقل. كانت تلك مفارقة غير مسبوقة.
نشر الروائي الفرنسي البير كامو رواية «الطاعون»، التي ذاع صيتها في العالم، عن بشر محاصرين ومعزولين في مدينة وهران الجزائرية، لا يستطيعون مغادرة المدينة ولا أحد بوارد أن يأتي إليهم.
كان ذلك مدخلًا لموضوعه: فلسفة الحياة والوجود أمام الموت الداهم.
في عمل أدبي ثالث «الحب في زمن الكوليرا» للأديب الكولومبي جبراييل جارثيا ماركيز بدت المفارقة بين عنوان الرواية وموضوعها، هناك حب ولم تكن هناك كوليرا، رفع العلم الأصفر فوق سفينة تحمل حبيبين قديمين فرقت بينهما أقدارهما وقد تجاوزا السبعين من عمرهما، حتى يهرب منها بقية الركاب ويبقيا معاً «إلى الأبد».
بعدما يستوعب العالم تجربته الحالية، يلملم آلامه ومخاوفه في الذاكرة، فإن تجربة «كورونا» المستجد سوف تمثل باليقين مادة إنسانية وتراجيدية لاستلهام رؤى وأفكار جديدة تأخذ طريقها إلى الأدب والفن لاستكشاف عالم منقسم بالمصالح وموحد بالأوبئة، ليس هو عالم «الطاعون» عند كامو ولا «الكوليرا» عند ماركيز ولا «الشوطة» عند محفوظ. إنه عالم «الكورونا» وعولمة الأوبئة، حيث أصبحت «حارتنا» هي العالم بأسره. ما يحدث الآن أقرب إلى مرآة سياسية واجتماعية وثقافية لعالم جديد يوشك أن يولد. نوع من الخروج عن النص.
يكاد العالم يفقد حيويته، منارات الحضارة مطفأة بمسارحها ومتاحفها ومزاراتها وتجمعاتها الرياضية، رياض الأطفال والمدارس والجامعات ودور العبادة مغلقة، أو توشك أن تغلق خشية انتقال المرض.
في مثل تلك الأجواء تنشط «نظريات المؤامرة» دون دليل عليها، ونظريات الحروب البيولوجية، فإذا كان تعطيل النمو الاقتصادي الصيني هدفها الأساسي فإن التعطيل شمل العالم كله وأصبحت أوروبا البؤرة الأساسية لتفشي الوباء، حسب منظمة الصحة العالمية، أو «الصين الجديدة» كما يقال.
التفكير العلمي لا الغيبي من ضرورات المواجهة بالإجراءات الاحترازية والبحوث العلمية التي تسابق الوقت للتوصل إلى عقاقير ناجعة للقضاء على الوباء المستجد.
لا وقت للاستخفاف أو الخفة، الرئيس الأمريكي نفسه دونالد ترامب بعدما استخف بالوباء اضطر أمام تزايد أعداد الضحايا في بلاده أن يعلن حالة طوارئ وطنية.
قد تكتسب قضية سلامة البيئة زخماً غير مسبوق بعدما أصبحت قضية مصير ووجود. لم يعد ممكناً الاستهتار بها على ما فعل رئيس البرازيل الحالي الذي تعرض للإصابة بالفيروس.
منذ بدء الخليقة لم يكن الإنسان قوياً كما هو الآن ولا ضعيفاً كما هو الآن.
قدرة الدول على مواجهة الفيروس المستجد بشفافية وكفاءة تدخلها في حساب جديد كاختبار عملي لمستوى تقدمها الطبي والتكنولوجي وقدرتها على تعبئة طاقاتها.
نحن أمام حرب عالمية من نوع جديد، لم تكن مصادفة أن تعلن دول كبرى إجراءات يصعب اتخاذها في أوقات الحروب المسلحة، فالعدو هذه المرة لا يرى لكنه يميت.
أمام الأخطار المحدقة تتأكد الحاجة الماسة إلى إعلاء قيم الشفافية والتفكير العلمي وإعلان الحقائق وردم فجوات الثقة وخفض الاحتقانات الداخلية طلباً للتماسك الوطني واتخاذ ما هو ضروري من إجراءات احترازية بلا تردد أو لعثمة لحماية حياة المواطنين. – See more at:
جريدة الخلبج
- 0097142243111
- info@alowais.com
- Sun - Thr: 9:00 - 16:00