«علينا ألا نخسر أصواتنا»، هذه نصيحة يجزيها لنا مختصون. قد يخطر في أذهان بعضنا أن المقصود هي أصواتنا التي ندلي بها في الانتخابات، فكثيراً ما نسمع نصائح في المواسم الانتخابية بأن نكون حذرين في اختيار من سنصوّت له، فلا نعطي صوتنا لمن ليس جديراً به، فنصبح بذلك من الخاسرين، فيما هو الرابح.
الموضوع أعمق من هذا، وأبعد ما يكون عن السياسة، وأقرب إلى عوالمنا الروحية. الحديث يدور عن أصواتنا بالمعنى الفيزيائي، إن صحّ القول، فالتحذير هو من عاقبة أن نفرط في قدرتنا على الكلام، أو للدقة، قدرتنا على التحدث للآخرين، ليس بالضرورة وجهاً لوجه، وإنما أيضاً عبر الهاتف، فنُسمعهم أصواتنا، ويُسمعوننا أصواتهم، ونتبادل معهم الرأي، والخبر، والشكوى، والفرح، والنكتة.. إلخ.
مزجو النصيحة يذكروننا بالزمن الذي كنا نهرع فيه نحو الهاتف الأرضي حين يرن، لمعرفة المتصل، محمولين بالفضول، والشغف بمن يكون، وإذا حدث أن تأخرنا في الوصول إلى مكان الهاتف في الغرفة المجاورة، تكون الفرصة قد فاتت، فنعود خائبين متسائلين من عساه يكون المتصل؟
هذا الطقس برمته، أصبح ماضياً لن يعود، فشاشات أجهزتنا المحمولة تكشف لنا على الفور، في الأغلب الأعم، من يكون المتصل، أو باعث الرسالة، حكماً من أن أسماء، وأرقام هواتف من هم في دائرة تعاملنا اليومي محفوظة في ذاكرة هواتفنا. والقضية ليست هنا، وإنما في حقيقة أنه رغم الفوائد الكبيرة التي أعطتنا إياها التقنيات الحديثة، نجدها «تأخذ شيئاً منا بشرياً للغاية»، والتعبير هنا لساندرا كاثلن، العاملة في مدونة «بي بي سي» الصوتية، حين نختار كتابة الرسالة النصية بدلاً من الحديث الشفهي، الذي اعتادته أجيال متعاقبة.
الواقع يشير إلى أن معظم الأشخاص باتوا يفضلون كتابة الرسائل النصية، واستخدام البريد الرقمي كبديل عن الاتصال المباشر، وأحياناً حتى اللقاء، لكن هذا الشكل الجديد للتواصل «يجمعنا ويبعدنا عن بعضنا بعضاً في آن واحد».
المتهكمون يسمون جيل الألفية بجيل«Mute»، فهو صامت مثل إعدادات الهاتف. والأستاذة في الدراسات الاجتماعية للتكنولوجيا، شيري توركل، ترى أن البشر مدربون على معرفة الآخر من خلال سماع صوته. فنبرة الصوت، وطريقة التحدث، وسواهما من تفاصيل مشابهة، تحدد إلى أي درجة نستطيع الثقة بمَن نحدثه، وما إذا كان يحبنا، أو يمقتنا، أو يميل إلى الحذر في التعامل معنا.
ويبدو أننا «نتخلى عن هذه الهِبة العظيمة» عندما نختار التحدث بإبهامنا في رسالة نصية، أو بريد رقمي، متوخين السرعة، بدل العمق.
جريدة الخليج