يقول نجيب محفوظ على لسان إحدى شخصيات رواية «أولاد حارتنا» إن «آفة حارتنا النسيان». لن ننسى أن جاهلاً لم يقرأ رواياته طعنه في رقبته. واليوم فإن آفة حارتنا الجهل. وهو جهل مقيم ومهاجر. وفي الشهر الماضي طعن مهاجر تونسي فرنسية في عنقها. امرأة تقارب الخمسين من العمر، لا يعرفها ويجهل من تكون وليس بينه وبينها خلاف سوى أنها موظفة استقبال في مركز للشرطة. صاح: «الله أكبر» وسلبها الحياة.
وفي الكتاب إشارات كثيرة إلى القوم الجاهلين. «خُذ الْعفوَ وأْمُرْ بِالعُرفِ وَأَعْرِضْ عن الـجاهلِين». وفيه السؤال الساطع: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». فالجهل ضد العلم. لكن بيننا الملايين من المتعلمين الجهلة، ومن المثقفين ثقافة مُزوّرة. وقد دار في الأيام الأخيرة جدل بين العراقيين على مواقع التواصل حول دور المثقف في «هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا». ولو كان له دور لما هجّ وترك الجهلة والحرامية يخربون مسقط الرأس.
والعراق هو البلد الذي يتفوّق على البلدان في أن مئات الآلاف من علمائه وخبرائه وأطبائه ومهندسيه وفنانيه وشعرائه وروائييه يقيمون خارج حدوده. يكتبون وينشرون ويصخبون ويجوعون ويشبعون ولا أحد يسأل عنهم. يشيدون المباني في أرجاء الدنيا ويطببون الأجانب وأرواحُهم مشدودةٌ إلى وطن طارد للعقول. يموتون ويدفنون في الترب الغريبة ولا تستعاد رفات كبارهم. الجواهري ونازك الملائكة والبياتي وغائب طعمة فرمان ومصطفى جمال الدين وبلند الحيدري وزينب وفؤاد سالم ومنير بشير وزها حديد وتطول القائمة.
وتعريف المثقف في العربية هو: من له علم بالمعارف. لكن تعريفه في اللغات الأوروبية أوسع، فهو: الشخص الذي يعتمد نشاطه على ممارسة العقل، وينخرط في المجال العام لمشاركة تحليلاته ووجهات نظره حول الموضوعات الأكثر تنوعاً، أو للدفاع عن القيم. وهو شخصية معاصرة متميزة عن الشخصية القديمة للفيلسوف الذي يوجه تفكيره في إطار المفاهيم.
يصاب بالخيبة من يطالع التقارير الدورية التي تصدر عن أحوال المعرفة في البلاد العربية. يأتي المشرفون على تلك التقارير إلى باريس ويعقدون ندوة في «اليونيسكو». يعرضون نتائج دراسات ميدانية في هذا البلد أو ذاك، ويوزعون ملفات سميكة معززة برسوم بيانية وأرقام كثيرة. وأغلبها يبعث على الإحباط. ذلك أن البون شاسع بين المعرفة الحديثة والتلقين الذي يتلقاه التلاميذ في المدارس، والتجهيل الذي يمارسه كثير من الجامعات. «الجهلو نورن». كأن تياراً كاسحاً يشدّ العقل العربي إلى وراء. وقديماً قال الشاعر «الجاهلي» عمرو بن كلثوم: «ألا لا يجهلن أحد علينا/ فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا».
في زمن سابق، كنا نقرأ عن المثقف الموسوعي، أي ذاك الذي لا يكتفي بميدان تخصصه بل يلمّ بعلوم وفنون متعددة. وهي صفة تُحيل إلى شتيمة لذيذة وجهها السياسي الفرنسي جان جوريس إلى جوستان دوسيلف، وزير الخارجية في الجمهورية الثالثة ثم رئيس مجلس الشيوخ. كيف تكون الشتيمة لذيذة وعبقرية؟ قال له: «أنت، يا سيدي، موسوعيّ في جهلك». ويرقد جوريس اليوم في مقبرة العظماء، وقد ذهبت عبارته مثلاً في الأمثال ودخلت التاريخ. وهي قد لاحقت دوسيلف حتى الرمق الأخير وما بعده.
جريدة الشرق الأوسط