التكلفة الباهظة لخلود المبدعين والالتفاف المؤقت على نسيانهم – بقلم شوقي بزيع

شوقي بزيع

لطالما كان البحث عن الخلود والإفلات من الهلاك هو هاجس الإنسان منذ خسارته للفردوس وهبوطه إلى الأرض، وحتى يومنا هذا.
ولم تكن محاولة الملك السومري كَلكَامش للبحث عن العشبة التي تعصم من الموت، سوى واحدة من المحاولات المتكررة، التي لم يكتب لها النجاح، لتأبيد الإقامة على الأرض بدلاً من التحلل السريع في جوفها المظلم. ولعل حرص الفراعنة على تحنيط الأجساد ومنعها من التحلل النهائي بعد الموت، هو التعبير الأبلغ عن اعتقادهم بعودة الروح المحتملة إلى الأجساد التي فارقتها. وليس أمراً بلا دلالة أن تعطي الأديان السماوية للحياة الثانية طابع الديمومة، وأن يتحول الخلود إلى مكافأة قيمة لأولئك الذين استحقوا بالإيمان والعمل الصالح نعمة الفردوس، فيما يتخذ طابع اللعنة الكابوسية بالنسبة لمرتكبي المعاصي والكفرة الآثمين.

ليس الفن من جهته سوى محاولة رمزية موازية لقهر الموت أو مراوغته وتضليله. فإذا كان يتعذر على المسمى، بحكم تكوينه الجسدي الهش، أن يرد غائلة الموت، فإن الاسم هو المنوط بفعل ذلك، عن طريق إنجازاته الفنية والأدبية التي تتيح له الرسوخ الدائم في ذاكرة الأجيال والعصور اللاحقة. ولعل هذا المعنى بالذات هو ما قصده محمود درويش بقوله «هزمتك يا موت الفنون جميعها\ هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين\ مسلة المصري\ مقبرة الفراعنة\ النقوش على حجارة معبدٍ هزمتك وانتصرتْ\ وأفْلتَ من كمائنك الخلودُ\ وأنا أريد، أريد أن أحيا». وإذا كان درويش قد أفصح بشكل جلي عن رغبته في الخلود، وعن خوفه العميق من الزوال التام، فإن ما قاله صاحب «ذاكرة للنسيان» لا يعبر عن أناه الفردية فحسب، بل هو لسان حال جميع البشر، خصوصاً الكتاب والفنانين، سواء عبروا عن هذه الرغبة بشكل مضمر، أو بشكل سافر الوضوح، كما فعل صاحب «الجدارية». كما أن هذا الهاجس لا يقتصر على الشعراء وحدهم، بل يتعداهم إلى سائر المشتغلين بالأدب والفن، حيث لفتني على نحو خاص تصدير الكاتب الأردني جلال برجس روايته الأخيرة «دفاتر الوراق» بعبارة «إلى قرائي الذين أفسحوا لكلمتي مكاناً في قلوبهم، فربحتُ الخلود». وفي هذا السياق أيضاً يمكن لنا أن نفهم السبب الذي دفع الفرنسيين إلى إطلاق صفة «الخالدين» على أعضاء الأكاديمية الفرنسية، التي انتقلت عدواها فيما بعد إلى مؤسسات عربية مماثلة تعنى بحماية اللغة الأم وتطويرها، فأُطلقت على مجمع اللغة العربية في القاهرة تسمية موازية هي «مجمع الخالدين».
على أن الخلود الدنيوي هو أمر نسبي ومتعدد الدلالات، بما يمنحه بُعداً رمزياً واصطلاحياً، ليعني فيما يعنيه البقاء لأطول مدة ممكنة. وكذلك هو الحال مع كلمة «إلى الأبد» التي يكثر استخدامها في مجال الحب، وفي عهود الوفاء التي يقطعها العشاق على أنفسهم. فحين يأمر فلورينتينو أريثا بطل «الحب في زمن الكوليرا» الذي استعاد حبيبته فيرمينا داثا بعد خمسين عاماً من الفراق، قبطان سفينته المبحرة في أحد أنهار كولومبيا، بعدم النزول إلى اليابسة، يسأله هذا الأخير «إلى متى؟»، فيجيب العجوز العاشق «إلى الأبد». ولعل العبارة التي أطلقها ماركيز على لسان العجوز لا تعني أبدية الجسد الفاني، بقدر ما هي تعبير مضمر عن خلود البطل في النص لا في الحياة، تماماً كما هو حال المؤلف في الوقت ذاته.
ومع ذلك فإن العلاقة بين الكتابة والخلود ليست من النوع السهل. وهي بأي حال ليست علاقة تلازم تلقائي، ولو كان الأمر كذلك، لوجب على التاريخ أن يحفظ لنا أسماء عشرات الآلاف من الكتاب والمؤلفين والفنانين، فيما أن نسبة الناجين من «تايتنيك» الكتابة الغارقة هي بكل المعايير ضئيلة جداً، كما هي ضئيلة أيضاً تلك الأعمال العظيمة التي أمكن لأصحابها أن يتخذوا منها زوارق حقيقية توصلهم إلى بر النجاة من التلاشي. يكفي أن يخطر لأحدنا الآن أن يتصفح أي مرجع مهم من مراجع النقد العربي القديم، ليكتشف أن من ظلوا صامدين في وجه الزمن من بين مئات الأسماء التي عرض لها ابن سلام الجمحي في «طبقات الشعراء»، أو ابن عبد ربه في «العقد الفريد»، أو أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني»، لم يتبق لنا في الذاكرة سوى ثلة قليلة من الكبار، الذين لم يمنعهم اختلاف أساليبهم ومناخاتهم ورؤيتهم إلى العالم من حفر أسمائهم ونصوصهم عميقاً في الذاكرة الجمعية، كما هو حال امرئ القيس وطرفة وأبي تمام وأبي نواس والمتنبي وابن الرومي والمعري، وآخرين غيرهم.
ولم يختلف الأمر كثيراً في عصرنا الراهن. لا بل إن الأمور بدت أكثر تعقيداً من ذي قبل، حيث لم يظل من بين آلاف الأسماء التي لبست لبوس الحداثة واستظلت بشعاراتها البراقة سوى حفنة من المبدعين الذين ربحوا إلى حد بعيد معركتهم مع البقاء. وإذا أتيح لأي منا أن يجد الوقت الكافي لإلقاء نظرة سريعة على فهارس الدوريات الثقافية العربية في القرن الفائت، بدءاً من «الرسالة» و«الأديب»، و«الآداب» و«شعر» و«حوار»، ووصولاً إلى «الطريق» و«مواقف» و«الأقلام» وغيرها، لاستبدت به الدهشة العارمة إزاء المآلات الغامضة لمعظم الشعراء الذين ظهرت نصوصهم بكثرة على صفحات تلك المجلات، قبل أن تخرج فيما بعد من التداول. فإلى جانب قصائد يوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وبدر شاكر السياب وسركون بولص وغيرهم، ممن اخترقت أسماؤهم سقوف المراحل اللاحقة، نشرت «شعر» نصوصاً شعرية موازية لأسماء أخرى لم تصمد في حساب الحضور الشعري، من أمثال إدفيك شيبوب وإبراهيم شكرالله ورياض الريس وهنري القيم وهاني أبي صالح ومجاهد مجاهد ولور غريب وإلياس مسوح ولؤي الأسعد وفالح عبد الرحمن وميشال كمال وفؤاد العتر وسامية توتنجي وجمال أبو حمدان وآخرين، ممن آلت أسماؤهم إلى الضمور، أو انصرفوا عن الشعر إلى سواه من الخيارات. وإلى جانب التجارب العالية التي ظهرت في «الآداب» من وزن نزار قباني وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وسعدي يوسف ومحمود درويش وأمل دنقل، ظهرت وجوه كثيرة لم نعد نعثر على أسمائها في خارطة الشعر، من مثل كمال عمار وأحمد عزالدين ومحمد خالدي ونزار نجار وخليل الموسى ووصفي صادق وكمال الجزولي وكامل أيوب وموسى النقدي وحسين جليل وبشرى البستاني وسعد دعبيس، وكثر مثلهم.
على أن لإشكالية الخلود والنسيان جانباً أكثر غموضاً وإثارة للتساؤل، لا يقتصر على ذوي التجارب العادية والهامشية من الكتاب والشعراء فحسب، بل يتعدى ذلك ليطال نسبة غير قليلة من أصحاب التجارب المؤثرة، والمواهب التي لا ترقى الشكوك إلى تميزها. وأكثر ما يستوقفنا في هذا المجال هو الغياب، أو التغييب، السريع لمعظم الأسماء التي استطاعت خلال حضورها المباشر على مسرح الحياة أن تحظى بقدر غير قليل من الشهرة والاهتمام الإعلامي والمتابعة النقدية. وبصرف النظر عن حفلات التأبين الإعلامي والمراثي الصاخبة التي تعقب الرحيل الجسدي للكثير من الكتاب العرب المعاصرين، عبر مواقع التواصل وما تبقى من الصحف والدوريات، فإن ما ينجم عن الغياب من ترددات، هو أشبه بالفقاعات التي ترسلها أنفاس الغرقى إلى سطح المياه قبل أن تخمد بشكل نهائي. وإذا استثنينا أسماء قليلة ما زالت قادرة على أن تهز من وراء القبر، وبالنصوص المجردة، شجرة الوجدان العربي الجمعي، من أمثال نزار قباني ومحمود درويش، ومن ثم الجواهري والبردوني ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، بنِسَب متفاوتة، فإن معظم الشعراء والكتاب المرموقين الذين رحلوا عن هذا العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، قد آلت شهرتهم وأسماؤهم إلى التراجع والانكفاء، حتى لو كان هؤلاء من وزن عبد الوهاب البياتي ومحمد الفيتوري وسميح القاسم ومحمد القيسي وممدوح عدوان وفاروق شوشة وجوزف حرب وحلمي سالم وأنور سلمان وفوزي كريم وكثير غيرهم.
سيكون من الصعب أخيراً أن نعثر على إجابات قاطعة بشأن خلود المبدعين أو سقوطهم من الذاكرة الجمعية، قبل مرور عقود عديدة على رحيلهم. وإذا كان ت. س. إليوت قد جعل من الخلود بطاقة سفر باهظة الثمن يقتصر استخدامها على الصفوة النادرة من المغامرين الرؤيويين، والآخذين بناصية لغاتهم الأم نحو منعطفات جديدة، الذين لا تحظى بهم الأمم في العادة إلا مرة أو اثنتين كل قرن من الزمن، فإن رهان الآلاف المؤلفة من المشتغلين بالكتابة على نجاتهم من النسيان، هو رهان صعب ونادر التحقق. وقد يجترح البعض وسائل مبتكرة، بهدف حماية رموزه الوطنية أو الآيديولوجية أو العائلية من النسيان المحقق، كأن تُدرج أعمال هذا الكاتب في المناهج الدراسية، أو يسمى باسم ذاك زقاق أو شارع فرعي، أو تنشأ باسم آخرين جوائز أدبية لتخليد أسمائهم، بما يجعل من هذه الوسائل أشبه بطرق ذكية للالتفاف على النسيان. ومع ذلك فليست الأمور المتعلقة بالخلود محسومة تماماً. إذ لربما أتيح لبعض الذين تم تهميشهم، بداعي الإهمال المقصود أو العقاب التعسفي، أو لسوء تفاهمٍ ما بينهم وبين أزمنتهم، أن يعودوا فجأة، وبفضل «منقبين» طليعيين، إلى واجهة العصور اللاحقة. وإذا كان محمد بن عبد الجبار النفري الذي اجتهد أدونيس في الكشف عن إبداعه الفريد هو أحد الذين استحقوا العودة إلى دائرة الضوء بعد ألف عام من الإقامة في الظل، فهو ليس الوحيد بالقطع، بل ثمة آخرون غيره ينتظرون بدورهم من يحررهم من غياهب العتمة والتجاهل المجحف.

جريدة الشرق الاوسط