يقولون إن الأربعين هي سن بلوغ العقل تمامه ورشده، لكن «البيان» التي أكملت عامها الأربعين وُلِدت راشدة، لأن صاحب فكرتها ومطلقها هو المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، في قصة تستحق أن تستعاد.
واليوم عندما نحتفل ببلوغ «البيان» الأربعين، فنحن إنما نحتفل بما نشرته بين قرائها ومجتمعها ووطنها من وعي وفكر، وبما حققته للصحافة الإماراتية والعربية خلال مسيرتها من تطور ارتقى بها إلى مصاف الصحف العالمية الكبرى ذات التاريخ العريق والمكانة المرموقة.
في هذه المناسبة اسمحوا لي أن يكون حديثي ذاتياً ومبحراً في الذاكرة، تلعب العواطف فيه دور البطولة لتعيدني إلى سنوات الكتابة الأولى، في زمن لم تكن صحافة الإمارات فيه قد أخذت شكلها الذي نراها عليه الآن.
كانت فكرة الاتحاد يومها تداعب أحلام أبناء الإمارات الذين تربطهم وشائج قربى لم تنفصم أبداً، لكنهم يفتقدون كيان الدولة المتحدة ذات العلم الواحد والمؤسسات. في هذه الأجواء ولدت مجلة «أخبار دبي» عام 1965 لتكون أول مطبوعة منتظمة تصدر في دبي قبل تأسيس دولة الاتحاد.
وعلى هذه المجلة تفتح وعي الكثيرين، ومنهم ذلك الطفل الصغير الذي كان يحاول إشباع نهم القراءة لديه من خلال الصحف والمجلات العربية التي كانت تصل دبي من الدول التي سبقت الإمارات إلى إصدار الصحف والمجلات، والتي كانت توفرها لعشاق القراءة «المكتبة الأهلية» ومكتبة «النهضة» في ديرة خلال تلك الفترة.
وكانت النقلة الكبرى في حياته حين نُشِرت له أول قصة قصيرة في مجلة «أخبار دبي» التي كان يحرص على قراءتها كل أسبوع. ثم توالى نشر المقالات والقصص والقصائد له في المجلة، ليصبح واحداً من كُتّابها رغم صغر سنه.
تمر سنوات يكبر خلالها الطفل وينشغل بدراسته التي يسافر لإكمالها في الخارج، بينما تستمر المجلة في الصدور مكملة المسيرة التي بدأتها.
ويأتي عام 1980 ليكون نقطة فاصلة في تاريخ صحافة دبي والإمارات، حيث يأمر الشيخ راشد، عليه رحمة الله، بوقف مجلة أخبار دبي «لتصدر مكانها صحيفة «البيان» في العاشر من شهر مايو من ذلك العام، مستندة إلى تاريخ مجلةٍ سجلت اسمها في تاريخ الصحافة الإماراتية، وكانت أول مطبوعة إماراتية تصدر كل أسبوع بانتظام لمدة 16 عاماً.
ولهذا فإننا لا نجاوز الحقيقة حين نقول إن «البيان» وُلدِت راشدةً بأمر من الشيخ راشد، عليه رحمة الله، بعد أن أدت مجلة «أخبار دبي» دورها، وأصبحت دبي بحاجة إلى صحيفة يومية تواكب ما يجري في الدولة، وفي الإمارة التي تغيرت ملامحها، وغدت تلعب دوراً مهماً في الداخل والخارج على صُعد الاقتصاد والتجارة والسياحة وغيرها، وأصبح اسمها يتردد في كل مكان واحدة من المدن العصرية الحديثة المنفتحة على كل جديد، في عالم يتغير كل يوم ولا يعترف بالجمود أو التوقف.
عشرون عاماً مضت قبل أن يعود ذلك الذي لم يعد طفلاً إلى حضن الصحافة مرة أخرى ليستقر في «البيان» التي أصبحت مؤسسة صحفية كبرى.
جاء ليضيف إليها التدريب بعد أن غدت مدرسة يتعلم الكثيرون منها مناهج العمل الصحفي وقواعده المهنية، فتم تأسيس «مركز التدريب الإعلامي» الذي اعتمده رؤساء تحرير الصحف الخليجية مركزاً إقليمياً لدول مجلس التعاون الخليجي، وعاد هو إلى الكتابة مرة أخرى.
وعلى مدى 12 عاماً عمل خلالها في «البيان» المؤسسة، وعلى مدى أكثر من 20 عاماً لم ينقطع خلالها عن الكتابة في صحيفة «البيان»، كان شاهداً على تطور هذه المؤسسة التي تخرجت فيها على مدى 40 عاماً أفواج من الصحفيين والإعلاميين، وتعلمت منها على مدى هذه الأعوام أجيال كانت «البيان» تقدم لهم كل يوم دروساً في الالتزام المهني، وتضيف كل يوم جديداً، كي تكون مصدر القارئ الأول والموثوق، تتفاعل معه ويتفاعل معها، وتصل إليه بمختلف الأشكال وكل الوسائل؛ الورقي منها والإلكتروني وعبر وسائط التواصل الاجتماعي.
معذرة إن كان قد طغى الشخصي على العام في مناسبة بلوغ «البيان» الأربعين، فصحيفة «البيان» عندي ليست مجرد مطبوعة تكبر بمرور الأعوام، ولكنها كيان لا يمكن الانفصال عنه، لأن «البيان» في القلب، وما يستقر في القلب من الصعب أن يبارحه.
جريدة البيان