البحور موسيقى لا لغة – بقلم عبد اللطيف الزبيدي

عبداللطيف-الزبيدي

هل أثار عمود الأمس «إبداع جذور اللغة والشعر»، في ذهنك شيئاً؟ خذ مثلاً أوزان الشعر الخليلية، الشعراء والأدباء واهمون إذا ظنوا أن قضاياها وأسئلتها وُضعت ملفاتها على الرف، ولم يعد فيها مثقال ذرة يستحق النظر أو إعادة النظر. المشكلة تكمن في خداع فهم وقع فيه أهل الأدب، وهو تصورهم أن البحث في أمور بحور الشعر مسألة أدبية محضة، فإذا أصدروا حكماً في شيء منها فذلك هو القول الفصل. ههنا المنزلق الذي وقعوا فيه.
مثار للسخرية لدى الأدباء أن تقول لهم إنهم ظلوا طوال أربعة عشر قرناً في ضلال مبين. لكن الحقيقة هي أن الأوزان إيقاعات، والإيقاع يتبع الموسيقى لا الكلام وقواعد النحو والصرف. في إمكانك إقامة عرض لإيقاعات بحور الشعر لمدة ساعات بالآلات الإيقاعية فقط، لا وتريات، لا آلات نافخة، ومن دون كلام. هاك مثالاً ساطعاً: اللغات وعلوم اللغات والآداب وفنون البيان، لا تستطيع أن تقول لنا كلمة توضيح واحدة في الأعجوبة الإيقاعية التالية: بحر الرجز هو: «مستفعلن مستفعلن مستفعل»، وبحر الرمل هو: «فاعلاتن فاعلاتن فاعلات». إذا حذفت من الرجز «مُس» من التفعيلة الأولى، صرت في بحر الرمل. وإذا أضفت «لُن» في بداية الرجز صار بحر الرمل.الآن، احذف «فا» من أوّل بحر الرمل وتابع القراءة، تدخل بحر الهزج «مفاعيلن مفاعيلن». أضف «تن» إلى أوّل الرمل تصبح في الرجز. فهل هذا اللعب التفنّني على الإيقاعات له علاقة باللغة والنحو والصرف والبديع والبيان؟
ما يثير السخرية حقاً هو انخداع الأدباء والشعراء طوال أربعة عشر قرناً، بأكذوبة التقطيع الشعري، التي خصها القلم سابقاً بعمود. صحيح أن الفراهيدي كان أول من صنّف الشعر العربي في بحور وأوزان، وكان ذلك دليلاً على عقل علمي جبار، لكنه «استعار» من الهنود طريقة تقطيع الشعر ونسبها إلى رؤيا منامه، والتقطيع لا علاقة له بالشعر العربي، فإيقاعاته قائمة على التفعيلة لا على المقطع الصوتي. الأشعار اليونانية واللاتينية (الفرنسية، الإيطالية، الإسبانية إلخ)، والجرمانية والأنجلوسكسونية، كلها قائمة على القدم أي المقطع الصوتي. يقول المتنبي: «من أين جاور هذا الشادن العربا»؟ ما علاقة التقطيع بأشعار العرب؟
لزوم ما يلزم: النتيجة التربوية: لا تحرموا النشء العربي من علاقة الإيقاعات الشعرية بالموسيقى والرياضيات، ولا تقعوا فرائس ذهنية لمروجي الأوهام الحداثوية بغير حق.

جريدة الخليج