أنظرُ إلىَّ عميقًا، أبحثُ، وأسألُ، وأدقِّقُ فى حياتى؛ لأكونَ جديرًا بالانتسابِ إليها.
إذْ لا أحبُّ أن أكونَ فيها غيرَ الشَّاعر، أبقى فى زاويةٍ ما؛ لأفهمنى وأفقهَ مصيرى ولُغتى، والأحلامَ التى لا تفارقُنى، خُصُوصًا المصادفات التى صاغتنى، وغيَّرتْ حياتى كليَّةً فى العشقِ والعلمِ والمصائرِ بمفردِها وجمعِها. أثرتُ الكثيرَ من الأسئلةِ والشكوكِ فىَّ، ولم أقف مرةً على يقينٍ ما، سوى أننى يُمكنُ أن أفعلَ لو أننى صرْتُ فى مقام الذاتِ واحدًا مُتعددًا يؤمنُ بأنَّ النقاءَ هو الطريقُ الواضحةُ والقصيرةُ للقبضِ على النُّورِ سواء أكان هذا النورُ داخلى أم لدى آخر أصلُهُ، بل أحلُّ فيه واجدًا وموجودًا. آمنتُ أن العشقَ يقينٌ، وأنَّ المعرفةَ سبيلٌ إليهِ، وأنَّ سلطةَ القلبِ أعلى، وجذرَها مُمتدٌّ، وما خشيتُهُ ومازلتُ أخشاهُ أن أُنسى، فلا أُحبُّ أن أكونَ موجودًا فى الحياة، ومنسيًّا بعد سفرى إلى مقبرتى التى اشتريتُ أرضَها فى قريتى كفر المياسرة عام 2013 ميلادية، حيثُ أحبُّ أن أصادقَ الموتَ فيها. فالنسيانُ فى الحياةِ قتلٌ، والنسيانُ بعد الموتِ سلخٌ للجسد وتمثيلٌ بجثتهِ.
عشتُ وحيدًا، وسأموتُ وحيدًا، وهذا الوضعُ ساعدنى على القراءةِ والكتابةِ والتأمُّلِ والتفكيرِ؛ لأنَّ ما ينقصُ الشَّاعر- الكاتب فى بلادى هو التأمُّلُ. دعك من نقصِ القراءةِ والتعلُّمِ وضعفِ التكوينِ الثقافى وهشاشةِ البنيانِ الفكرى، أما الموهبةُ فلا أتكلمُ أبدًا فيها، إذ هى هبةٌ أو منحةٌ لا تُردُّ، لكنها قد تفنى أو تموتُ. إنَّنى فردٌ يحبُّ العُزلةَ، مِزاجِى مَرِحٌ وساخرٌ، عُزلتهُ لا تعنى سوداويتَهُ، أو البعدَ عن الناسِ أو عمَّن نحبُّ، ولكنْ فى بلدانٍ كبلداننا إذا لم تعتزلْ ستُفَرَّغُ ممَّا تحملُ، ولعلَّ سفرى المُبَكِّرَ والدائمَ إلى العالمِ أنقذنى من وهداتٍ وهاوياتٍ كثيرةٍ. أدافعُ عن وجودى الخاص بلُغتى، وليس بأىّ شيءٍ آخرَ، فأنا لا أمتلكُ سوى اللغة، التى أكتبُ بها شِعرى، ومكتبة حرصتُ على أن تكونَ متنوعةً، ملأى بالكتبِ الكُبرى فى شتَّى المعارفِ والعلومِ، خُصُوصًا الحضارات القديمة.
نَمَتْ لدىَّ موهبةُ الإنصاتِ أو الإصغاءِ أو الاستماعِ، فأنا مُصْغٍ عميقٌ أكثر من كونى مُتكلمًا، فالإصغاء يمنحنى قُدرةً على التفكيرِ، ويُشْعلُ النارَ فى مُخيِّلتى. لقد آمنتُ منذ طُفولتى بضرُورة معرفة نفسى، قبل معرفةِ الآخرين، وكنتُ فريدًا فى مخاطبة ذاتى بصوتٍ مسْمُوعٍ، إذ كنتُ أهربُ إلى الغيطانِ حيثُ أرضنا؛ لأكلِّمَ نفسى، خشية أن يرانى الآخرون «مجنونًا»، وظللتُ طويلًا أشكُّ فى كونى كذلك من فرط حديثى مع نفسى لسنواتٍ عديدةٍ. قطعتُ علاقتى مع أى نظامٍ، بل فى الأصلِ لم تكُن هناك علاقةٌ، وهذا ليس من سبيل حُبِّى للفوضى وعدم الالتزام والانخراطِ فى نظامٍ صارمٍ، ولكنَّنى أُحبُّ أن أكونَ حُرًّا.
فما دام الفردُ لهُ رسالةٌ، عليه أن يقطعَ مع من يتصورُ أنهُ سيعطِّله أو يُعرقلهُ عن أداءِ رسالته بحريةٍ غير مسبوقةٍ، وكلما اقترب الحالمُ من السُّلطة هربَ حلمُهُ وجفَّ، وأُلغيتْ شخصيتُهُ، أو شُّوهتْ، فقد عشتُ حياتى لا أحيدُ عن المقولةِ الأشهرِ فى الفلسفة «كُنْ ذاتكَ». لم أرد أن أكُونَ إلاىَّ. أردتُ أن أدخلَ من البابِ الضيِّقِ، إذ مثلى لا يُحِبُّ الأبوابَ الواسعةَ، أو الأبوابَ الجاهزةَ؛ لأنَّ البابَ يعرفُ أسماءَ داخليه، ويكرهُ الوُجُوه المُسْتعارةَ والقلوبَ الصدئةَ.
المصري اليوم