تأخرت في قراءة «موت صغير» للروائي السعودي محمد حسن علوان، لأنني ترددت في ذلك. فأنا حذر من كتب الجوائز برغم أني مخطئ في ذلك، بل مكابر بلا أسس.
وقد تبين لي مع الزمن، أن الجوائز الجدية لا تعطى من دون حرص نقدي على الحدود الدنيا من التميز الإبداعي.
«موت صغير» تروي حكاية وأسطورة وسيرة محيي الدين بن عربي، في إطار جميل، برغم الاختلاف حول الرجل نفسه. فما هو هنا إلا ذريعة مثيرة للسرد، التاريخي والمتخيل، وبحث مستطرد في مرحلة غنية من تاريخ العرب.
لكن هذا العمل الكبير تشوبه نقطة ضعف في الشكل، هي اعتماد ضمير المتكلم الذي يسهل على الكاتب التوسع السردي بلا ضوابط. ويلجأ إلى ذلك كثيرون. وقد اتخذ أمين معلوف هذه الطريقة في معظم رواياته، غير أن الشبه يبدو شديد الوضوح مع كتابه «ليون الأفريقي» في «تفكيك» الرواية وجمعها. ولا أدري إذا كان هذا التشابه يضر الكاتب السعودي الكبير، أم هي تلاقي الخواطر في الآداب والفنون.
في أي حال، أنا نادم لأنني تأخرت، أو ترددت، في قراءة «موت صغير»، سواء لأهميتها كعمل أدبي أو عمل بحثي تاريخي. فهي كما قال مولانا الجاحظ، من «الآداب الكثيرة». وقد آن لي التخلي عن الحذر في جوائز «البوكر» العربية بعدما عرفتنا على كل هذه الأسماء والأعمال. وكانت الجوهرة الكبرى، بالنسبة إليّ، الكاتبة العُمانية جوخة الحارثي، صاحبة «سيدات القمر». ويصعب عليّ أن أحدد أعمال هذه السيدة. لكنه لقية من لقايا الأدب «النسائي» ولؤلؤة من مرحلة الأدب العربي الحديث. وإذا ما أكثرت من استخدام عبارات مثل «جوهرة» و«لؤلؤة» فلأنها أغلى الأسماء والأوصاف في الخليج، الذي كانت كل حياته وثروته في ملاحم البحار وشقاء الغوص.
يذكرني سحر النضارة الأدبية عند جوخة الحارثي بالنضارة التي أطل بها الطيب صالح على الأدب الإنجليزي. كلاهما يحمل ذلك الخليط الخيالي من مياه النيل الصاخب إلى الهدوء المطلق في صخور مسقط. كلاهما يتيه في عالمه الجديد وجامعات بريطانيا ليخرج من قرية «كرمكول القريبة من قرية دبة الفقراء» في السودان، أو من بيوت العبدات والعبيد والعاشقات والعاشقين في الداخل العماني.
تحاشت جوخة الحارثي ما وقعت به كاتبات كثيرات في العالم العربي في عبور الجسور الفنية نحو الواقعية: أي الابتذال والافتعال. ومنذ اللحظة الأولى وضعت لنفسها – ولسواها – مستوى أدبياً فائقاً، سوف يكون من الصعب تقليده أو تسخيفه.
لا أدري إن كان عالم جوخة الحارثي موجوداً حقاً، ولا مدى الصناعة الأدبية فيه. وعندما يصل الإبداع إلى هذا المستوى، لا يعود ذلك مهماً. بل نصبح هنا في عالم شبيه بعالم غابرييل غارسيا ماركيز. أقل كثافة ومخيلات وأبطالاً، وأكثر عطراً.
جريدة الشرق الأوسط