إلياس فركوح… سلاماً لعمّان! – بقلم طالب الرفاعي

طالب الرفاعي

كان زمناً مختلفاً، ووقتها كان صعباً جداً أن يُقال عن شخص ما إنه أديب، وأكثر من ذلك صعوبة أن يجد صوته الخاص بين أصوات تركت بصمتها على وجه أحد أكثر الأزمان العربية الحديثة حركة وحراكاً وثورية وحزبية وثورية، وحتى قتلاً.

نعم… ما كان سهلاً أن يُنظر إليك بوصفك كاتباً مكتمل التكوين، إن لم تقدم إنتاجاً إبداعياً بالدرجة الأولى، وفكرياً بالدرجة الثانية، وتراكم إنتاجاً على إنتاج حتى يغدو لك وجه إبداعي وإنساني تقابل به معشر الأدب والأدباء، وتصافحك الأيادي تشدُّ على كفك احتراماً وتقديراً واعترافاً صريحاً بانتمائك لهم، وانتماء أدبك لكتاباتهم!

إلياس فركوح (1948- 15 يوليو 2020) هو أحد أولئك القلائل، الذين يشكلون ظاهرة في شخص إنسان. يوم كان كل من القاهرة وبيروت وبغداد مراكز ثقافية بامتياز. مراكز لأنها قادرة على أن تُنتج ثقافة، ومراكز لأنها تتوفر على أعلامها في كل جنس أدبي، ومراكز لأن لصفوة أدبائها حضوراً مؤثراً على ساحة مغامرة الفكر والإبداع والثقافة والسياسة وبالتالي المجتمع. في ذلك الوقت، كان صعباً أن يُنظر باعتراف كامل لأديب يأتي من الهوامش، ويومها كانت عمّان، ككثير من العواصم العربية، هامشاً ثقافياً، مما حدا بمبدعها وروائيها الأجمل غالب هلسا، إلى الهجرة والتنقل من مكان لآخر، ومن عاصمة عربية لأخرى. لكن إلياس فركوح، الذي انصهر في معترك الحياة الإبداعية والثقافية في بيروت إبان دراسته لمادة “الفلسفة وعلم النفس” في جامعة بيروت العربية، ولحين حصوله على البكالوريوس، والذي بدأ مشواره الإبداعي في مجال القصة القصيرة عام 1978 بمجموعة “الصفعة بغداد”؛ سرعان ما راح يهرول في ميدان الكتابة والترجمة والنشر، وسرعان ما صارت “دار أزمنة” منارة مضيئة استدلت بها أجيال من الكتّاب الأردنيين، وإلى جانب ذلك صارت مزاراً لكل أديب عربي يقصد عمان. وأكاد أكون متأكداً أنه سيكون صعباً على الإخوة والزملاء في عمّان، العثور على شخصية كاريزمية يلتف حولها القاصي والداني، وتكون قادرة على لعب الدور الإنساني والإبداعي الذي لعبه إلياس فركوح محلياً وعربياً.

حين أشرت أعلاه إلى ذاك الزمن المختلف، قصدت الزمن الذي ولِد مع هزيمة يونيو 1967، يوم حُرق قلب كل مواطن عربي، ويوم مضت سكين الهزيمة/الفضيحة في قلب كل مفكر وشاعر وقاص وروائي ومسرحي وتشكيلي وسينمائي، وكل ناشر وكل مسرح وكل صالة عرض للأعمال الفنية. في ذلك الزمن الصعب، الذي كُتب فيه على البعض السجن والتعذيب وحتى الموت، لا لشيء إلا لأن ضمائرهم أبت الهزيمة وأبت الذل وأبت الزيف، واصطفت إلى جانب أماني الوطن والصدق والإبداع وهموم البشر؛ كشف إلياس فركوح عن وجهه وحضوره.

نعم، إلياس فركوح هو أحد أولئك الذين ولِدو في ذلك الزمن، وأذكر أنني في إحدى جلساتنا سألته عن كونه وُلِد في عام 1948 مع الميلاد الأهم للكيان الصهيوني، وبلغ أوج شبابه، وكان في العشرين حين هُزم العرب هزيمة حديثة لم تقم لهم بعدها قائمة حتى اللحظة. أذكر تلك اللحظة، ترقرقت دمعة غالية في عيني إلياس، وقال بحسٍّ مكلوم: “قدري أخي طالب أن أعيش مهزوماً في أجمل أيام حياتي!” استوقفني ما تلفظ به إلياس، وخجلت أنني سألته السؤال، مرت لحظة صمت بيننا، قبل أن يتنهد إلياس قائلاً: “ولم أزل مهزوماً…” تلاقت نظرتنا، فأضاف متحسراً: “وسأبقى”. لحظتها، شعرت أن كلمة علقت بسقف فم إلياس، وأنه يداري أن يقذف بجمرتها في حضني، ولأني رحت أنظر إليه دفع قائلاً: “وأنت وكل جيلنا”. لحظتها، شعرت بأني أغصّ بعبرتي، وشعرت بأن هناك من يفرغ لحظتنا من أي نسمة هواء، وأننا -إلياس وأنا- نكاد نختنق بحزننا.

يا صديقي يا إلياس، تكلّمت معي ربما قبل يومين من وفاتك، وأخبرتني أنك اجتزت عملية القلب، وأنك تتمتع بصحة جيدة،

واتفقنا أنا وأنت على لقاء قادم… لكن يا صديقي، ما كان لهذا اللقاء أن يقع، فلقد حاولت من طرفك، ومعك أطباء عمّان، أن تشحن شيئاً من حياة في دفق قلبك المتعب بالدنيا. لكنْ، ودعني أُسرّ لك، كان قلبك عازفاً عن الدنيا منذ سنين مضت، ومنْ يعرفك أدرك ذلك وتحدث به، ولأقل لك أيضاً: معك كل الحق يا صديقي، فما نعيش من زيف إنساني وإبداعي وثقافي أكبر من أن يُحتمل، ولذا ربما يصبح الرحيل راحة!

يا صديقي، لتهنأ روحك الطاهرة بسلام سعيت إليه طوال عمرك، فلقد كنت نموذجاً للإنسان النقي والصديق المخلص، وما أقلَّهما اليوم! إن وجِدا… وداعاً وإلى لقاء.

الجريدة