«.. ما يؤلمني في الموت ألا أموت حباً»، هذا ما كتبه غارسيا ماركيز في رائعته «الحب في زمن الكوليرا»، ولسان حالنا اليوم لا يختلف كثيراً عن واقع كوليرا التي حصدت أرواح الآلاف آنذاك، المرض الذي أوجعنا ماركيز في وصفه في روايته حين قال: «كان يشعر بزمجرة القط النائم في كليتيه، ويحس بخرير الدم في شرايينه، كان يستيقظ أحياناً في الصباح كسمكة لا تجد الهواء لتتنفس».
سأكتب عن الحياة التي تغيرت ملامحها.. مشاعرنا التي تئن ونحن في عزلة تامة عن أحبابنا وفي حجر شبه كامل عن الأماكن التي اعتدنا زيارتها، كم هو مؤلم أن نتحدث عن عالمنا اليوم المتقطعة أوصاله، ومدن يحاصرها الموت وأخرى تغلق حدودها كي لا يتسرب إليها حامل للفيروس.
في زمن كورونا تنزف مشاعري، فالكتابة خلاص من الوجع، ونزف خارجي كي لا يتخثر الألم داخل أوردتنا، قاتل هذا المشهد من نافذتي في الدور الأربعين وأنا ألوح لمدينتي من خلف نوافذ زجاجية مغلقة دون قدرتي على مصافحتها أو تفقد شوارعها ومقاهيها، المدن كالبشر.. نعقد معها علاقة حميمية تمتد من الوريد إلي الوريد، لا تخذلنا ذاكرتها ولا نخذل ودها، وكم هي قاسية لحظات التفكير بمدن خذلتها الحياة، باريس تقفر من زائريها، وإيطاليا يتنازعها الموت ويُحْيِي سكان مدنها من نوافذها تراتيل الحياة في محاولة لالتقاط أنفاس الأمل عبر ألحان شاردة من قبضة الفزع، وإسبانيا تغص بمن احتجزوا بها من أهلها وزوارها.. بريطانيا العظيمة تركع لكورونا، أما أمريكا فإنها لا تنجو من قبضة التنين الصيني، والعواصم العربية أقل ارتباكاً وأكثر حذراً لكن كورونا زائر حتمي قطع أوصال المدن وفرض منع التجول في البلاد التي لا تهدأ وتحترق بشمسها في مارس، وتتمنى لو أن ما يحدث هو كذبة نيسان.
يا لتلك الشواطئ المهجورة إلا من موج البحر، وتلك الصحارى التي لا يزورها اليوم سوى الريح، أريد أن أموت بالحب.. وأموت على حب.. لا أريد أن أتنفس عبر أنبوبة أكسجين، أو أن أكون على فراش يحملونني إلى لحدي الأخير، فلا يزال للحياة متسع للبوح.
الأرض تعيد ترتيب نفسها، تتخلص من أوزار مصانعها وآفات البشر، من ضجيجهم وكراهيتهم وحسدهم، تستنشق هواء نظيفاً وترتاح من صخب الناس، الأرض فاتنة اليوم كما لم تكن من قبل، وأنا أفتح الصفحة الأولى لأرسم كيف نحيا بالحب زمن كورونا.
صحيفة الرؤية