أبي غيّر العالم – بقلم علي عبيد الهاملي

علي-عبيد-الهاملي-1

«أبي.. لقد غيّرت العالم» هكذا صرخت الطفلة جيانا عندما ظهرت وسط المحتجين على مقتل والدها جورج فلويد، وهي تجلس على كتفي محترف كرة السلة السابق ستيفن جاكسون، الذي نشر الفيديو على حسابه في «إنستغرام»، وعلّق قائلاً: «نعم إنها جيجي ابنة جورج فلويد الذي غيّر العالم». وإذا كان البعض يرى أن الشاب التونسي محمد البوعزيزي قد غير العالم العربي، عندما أقدم على الانتحار حرقاً بعد أن صفعته الشرطية فادية حمدي أمام الملأ في مدينة سيدي بوسعيد التونسية، فإن الأمريكي جورج فلويد قد غيّر العالم عندما داس على رقبته، أمام الملأ أيضاً، الشرطي ديريك شوفين في مدينة مينيابوليس الأمريكية، وفق كلام ابنته.

تفاصيل ما حدث لجورج فلويد معروفة، وتداعياتها حديث وسائل الإعلام إلى درجة أنها سحبت البساط من تحت أقدام جائحة «كورونا» التي ما زالت تسبب خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وتربك الأفراد والحكومات، فقد أرجعت هذه الأحداث أخبار الفيروس إلى الوراء، وغدت تتصدر نشرات الأخبار، فهل نحن أمام أحداث شبيهة بتلك التي مرت بها دول الشرق، أم أنها ظاهرة أمريكية لا تشبه غيرها، باعتبارها تتعلق بالتمييز العنصري الذي لها معه تاريخ؟

تاريخ التمييز العنصري في أمريكا يرجع إلى أكثر من أربعة قرون، عندما وصلت سفينة تحمل 20 أفريقياً عام 1619 إلى مستعمرة فرجينيا البريطانية في أمريكا الشمالية، لاستخدامهم عمالاً في مزارع المستعمرات وخدماً، فكانت نقطة الانطلاق لانتشار الرق الذي وصل إلى المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية. وخلال الفترة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر تم نقل ما يقرب من 12 مليون أفريقي إلى الأمريكتين، حتى بلغ تعداد العبيد في الولايات المتحدة عام 1860 أربعة ملايين تقريباً. وقد ظل الرق مادة مثيرة للخلاف في الدساتير الأمريكية على مدى عقود من الزمن، وكان الجدل الأخلاقي حوله واحداً من الأسباب الرئيسة للخلاف الذي أدى إلى الحرب الأهلية الأمريكية التي امتدت من عام 1861 إلى عام 1865، وتعد الأكثر دموية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وكان من نتائجها إعلان تحرير العبيد الذي وقعه الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن في الأول من يناير عام 1863م، ليكون بداية تغيير الوضع القانوني للعبيد في الولايات المتحدة.

تاريخ الرق في الولايات المتحدة الأمريكية ألقى بظلاله على العلاقة بين البيض وأصحاب البشرة السمراء الذين كان يجلبهم تجار الرقيق من أفريقيا، ويتم إخضاعهم لأعمال السخرة في الولايات الأمريكية. وظلت العلاقة بين أصحاب البشرتين مضطربة قديماً وحديثاً، حتى جاء مقتل المواطن الأمريكي ذي الأصول الأفريقية جورج فلويد على يد الشرطي الأمريكي الأبيض ديريك شوفين ليخرج ما تحت الرماد من جمر، ويفجر مسلسل العنف والتخريب الذي عم الولايات المتحدة الأمريكية، وشارك فيه مواطنون من أصحاب البشرتين البيضاء والسوداء على حد سواء. وبغض النظر عن اللصوص الذين استغلوا حالة الفوضى التي عمت المدن الأمريكية لينهبوا متاجرها وأسواقها، وعن أعضاء حركة «أنتيفا» و«الأناركيين» الذين اتهمهم الرئيس دونالد ترامب بإثارة الشغب، وتوعد بتصنيفهم إرهابيين، فإن ما جرى خلال الأيام الماضية في الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن أن يكون أحداثاً عابرة سببها مقتل أمريكي من أصول أفريقية على يد شرطي أبيض، تماماً كما أن ما حدث في تونس أواخر عام 2010 وما تلاه من أحداث في عدد من الدول العربية، لم يكن أحداثاً عابرة سببها انتحار بائع متجول أمام مقر ولاية تونسية، احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية للعربة التي كان يبيع عليها الخضار والفواكه.

ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض المدن الأوروبية هو نتيجة احتقان تعيشه مجتمعاتها، ومقتل فلويد قد يكون ما هو إلا الشرارة التي كشفت ما تحت الرماد من جمر، والذين يقولون إن أمريكا تشرب الآن من الكأس التي سقت منها الشعوب الأخرى، إنما يرددون مقولةً تحمل من الشماتة والتشفي أكثر مما تحمل من التفكير الواقعي والتحليل المنطقي، فعندما كان ديريك شوفين يضغط بركبته على رقبة جورج فلويد، كانت الكثير من القيم تئن تحت وطأة تاريخ من علاقة متأزمة في مجتمع عانى على مدى عقود من التمايز بين أفراده، أفرز طبقات يشعر بعضها بالفوقية، ويشعر بعضها الآخر بالدونية، وينعكس هذا على أسلوب تعاملهما، حتى لو حاولت الدساتير تفكيك هذه المسألة.

نحن لا نشك في صدق الطفلة جيانا عندما قالت إن أباها غير العالم، فالعالم في نظر بعض الأطفال، الذين نثق ببراءتهم، هو حدود البلدان التي يعيشون فيها. وعندما تكون حدود إنسان ما هي الأفق الذي يراه أمامه، تتقلص مساحة الأرض ويصبح الكون قزماً صغيراً.

* كاتب إماراتي

جريدة البيان