كنت أظن أن كلمة «فلسطين» هي المفردة الأكثر تردداً على شفاه العرب، حتى جاء «كورونا» واختطف قصب السبق. في سبعة أشهر تفوق في تواتره على سبعين عاماً لهجنا فيها بقضيتنا المركزية، وانشغلنا بها عما عداها. وهناك اليوم من ينشغل بضبط حركات «الكمامة». هل هي بتشديد الميم الأولى أم بتخفيفها؟ بكسر الكاف أم بفتحها؟
ينزل سائح نادر إلى فرنسا، هذه الأيام، ويدير عينيه في وجوه الباريسيين والباريسيات. لن يجد «بلد شهادات» كما قال عادل إمام؛ بل: «بلد كمامات». دولة استغرقت سنوات وهي تتجادل حول منع النقاب وكل أشكال أغطية الوجه، ثم جاء «كورونا» ونقَّب الجميع، نساءً ورجالاً. يسيرون في الشوارع مثل «زورو». لا يكاد أحدهم يتعرف على أخيه. فإذا أضاف القوم النظارات القاتمة الواقية من الشمس غابت ملامحهم تماماً. ولعلها ممارسة وجودية جديرة بالتجربة، أن تختلط بالناس مع وضع حجاب بينك وبينهم. تسير متخفياً مدججاً بكمامتك، وتشعر بنفسك كائناً غامضاً مجهولاً، تطوف في عالم لا هوية لك فيه.
أصبحت الكمامة قطعة من الثياب. مثلها مثل القميص والسروال. وراح المصممون يتفننون في أشكالها وألوانها. منها ما هو ساذج، أي سادة، وما هو منقوش أو مُخطط كالحمار الوحشي. ومنها ما هو شفاف يتيح لضعاف السمع القراءة على الشفاه. سرعان ما تحولت إلى علامة للتمايز الطبقي. كمامة بأقل من يورو، وأخرى بمائة يورو. والخروج من دونها ممنوع، غرامته 135 يورو.
لكن قرارات أهل الصحة في باريس لا تعجب أهل الصناعة والاقتصاد. والكساد يهدد بضاعات كثيرة. فالبلد الذي اشتهر بإنتاج مستحضرات التجميل يجد نفسه عاجزاً عن تسويقها. لا جدوى للأصباغ من وراء كمامة. وهي كارثة اقتصادية صغيرة إذا عرفنا أن فرنسا كسبت 16 مليار يورو في العام الماضي من تصدير مواد التجميل بالمراسلة، وأضعافها من البيع في المتاجر العادية.
أحمر الشفاه أكبر الضحايا. تراجعت مبيعاته بأكثر من النصف لأنه يلوث الكمامة. لكن أقلام الكحل وأخواتها سجلت انتصارات آنية. وارتفعت مبيعات «الماسكارا» بنسبة 150 في المائة. وهي – لمن لا يعرف – فرشاة ثعبانية مبللة بصبغة سوداء تزيد من كثافة الأهداب. تحيلها أشواكاً تخز الأفئدة الضعيفة. يغيب سحر الشفتين فتهُب العينان للتعويض. وآخ من أنصار البيئة. لا يفوتون فرصة للصراخ. يأتون هنا ليحشروا أنفسهم بين المرأة ومسامات جلدها وبصيلات أهدابها. يسيرون في المظاهرات، ويرفعون اللافتات، ويطالبون بمواد «خضراء» للزينة، لا تسمم البشرة ولا تفسد الطبيعة. ولا يعرف المرء أي طبيعة يقصدون، جمال النساء أم أشجار الغابات؟
يشح الماء وتتلوث الخضراء ويتكمم الوجه الحسن. تكسد بضاعة شعراء الغزل، تلك التي صمدت بعنفوان بعد تهافت المديح وانحسار الهجاء وانتفاء الغرض من أشعار الحماسة. وكان العرب يسمون التغزل بمحاسن النساء «تشبيباً». وفي التشبيب تتنافس «العيون التي في طرفها حَوَر» مع «العقيق الثمين في شفتيك». والعقيق حجر معتق ملون يميل إلى الحمرة. لكن العرب أحبوا أيضاً السمرة في الشفتين، وابتكروا لها أسماء: «اللمى»، و«الحوة» و«اللَعَس». ونقرأ لابن شهيد الأندلسي: «أقبل منه بياضَ الطلى وأرشفُ منه سوادَ اللعَس».
وهو ذنب «كورونا» من قبل ومن بعد. كنا في الكمامة، واقتادنا إلى مناطق الخطر.
جريدة الشرق الأوسط