في عام 1921. وفي محلة الحيدرخانة في بغداد، ولد ناظم أحمد الجبوري. طفل يتيم سيشتهر باسم ناظم الغزالي. جاءه اللقب من جدّه لأمه.
كان رشيقاً سريع الخطى، بحيث سمّوه جهاد الغزال. وتطور اللقب إلى الغزالي. كبر الولد وأحبّ الغناء. شخصية مهذبة وصوت عذب مثقف، تجاوز حدود مدينته وبلده ووصل، بفضل المذياع، إلى آذان العرب. صار سفيراً للأغنية العراقية.
تحل، في العام المقبل، الذكرى المئوية لولادة ناظم الغزالي. ولعل من العبث الدعوة لمهرجان ثقافي موسيقي تحتضنه بغداد لتكريم ذكراه. وعندما زار الرئيس الفرنسي السيدة فيروز في بيتها تساءل العراقيون: «لو ذهب ماكرون إلى بغداد فأي مغنية يزور؟». حمل السؤال سخرية مبطنة، بل ومكشوفة، تبعث على الألم. فالموت طوى الكثيرات وأسكت الوضع الحالي من لم تمت. صديقة الملاية وزكية جورج ومسعودة وسليمة مراد وزهور حسين وعفيفة إسكندر ومائدة نزهت ولميعة توفيق ونسرين شيروان ووحيدة خليل وأنوار عبد الوهاب وأمل خضير وسيتا هاغوبيان. تنطفئ المصابيح ويبدأ زمن جديد. الطرب حرام.
التحق ناظم الغزالي بمعهد الفنون الجميلة ليصبح ممثلاً. كان قارئاً نهماً ومستمعاً نابهاً لمقامات القبانجي وأغنيات عبد الوهاب. ترك المعهد بسبب ضيق ذات اليد، وعمل موظفاً بسيطاً في أمانة العاصمة، مراقباً في مشروع الطحين. لم يسمع جعجعة ولا رأى طحيناً. كان يغني ويسمعه زملاؤه فيصيحون: «الله!». عاد إلى المعهد يتعلم فنون الإلقاء من أستاذه الفذ حقي الشبلي (1913 – 1985). وانضم إلى فرقة «الزبانية»، أشهر الفرق المسرحية يومذاك. وفي عام 1942 شارك في مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي، وأدى فيها أغنية «هلا هيا نطوي الفلا طيّا». كانت الأغنية جواز دخوله إلى إذاعة بغداد.
أخذه الشيخ علي الدرويش إلى فرقة الموشحات. والدرويش (1882 – 1952) موسيقار حياته رواية. ولد في حلب لأسرة هاجرت من المنوفية في مصر، حيث كان جده مجنداً في حروب إبراهيم باشا. عمل مدرساً للموسيقى في تركيا والمحمرة والعراق ومصر وتونس وفلسطين. ولم يبخل الأستاذ بفنونه وخبراته على تلميذه. وفي عام 1948 سافر المطرب الشاب إلى فلسطين ليغني لقوات الجيش العراقي هناك. أدى الشعر الفصيح بالبراعة التي يؤدي فيها الأغنيات الخفيفة. ينتقل من «أقول وقد ناحت بقربي حمامة» إلى «أحبك وأحب كل من يحبك».
أحبّ الغزالي صوت سليمة مراد. حملت لقب «باشا» لما كان لها من سطوة. مغنية يهودية لها مجلس يحضره كبار زمانها. نراها في الصور تستقبل رجالاً أنيقين، منهم من يعتمر الطربوش أو العمامة أو العقال. كان من رواد مجلسها العلامة محمد بهجت الأثري والشاعر معروف الرصافي. ولم يكن ناظم في تلك الأيام سوى مبتدئ يسمعها ويحفظ أغنياتها. إلى أن التقى الاثنان، أوائل 1952. في بيت إحدى العائلات البغدادية. ولم يرفع عينيه عنها طيلة السهرة. أحبها وكانت أكبر منه بخمس عشرة سنة. وأحبت صوته ووسامته وتزوجته واشتغلت عليه. منحته كل ما تحفظ من منابع الغناء البغدادي القديم الذي برع فيه الموسيقيون اليهود. كان إرثاً نادراً بعد نزوحهم الجماعي.
قيل إنه ارتبط بها طمعاً بمالها. لكن سكتة قلبية أودت بناظم وهو في الثانية والأربعين من العمر. وبعد سبع سنوات لحقت به سليمة ودفنت بجواره. وقبل أشهر فارق الحياة في الولايات المتحدة ناظم نعيم. الفنان الذي لحّن كل أغاني الغزالي تقريباً. وهو تاريخ يبعد عنا أشباراً، جمع فناناً مسلماً بمغنية يهودية وبملحن مسيحي. أشبار تبدو اليوم بامتداد سنوات ضوئية.
جريدة الشرق الأوسط