يحاول أن ينفك من محيطه والمحاصر له منذ الأزل، عبر أن ينسى حبله السري، أو ينفلت من أزمنة شدّت وثاقه وأحكمت القيود، كل المحاولات التي بذلها في ذلك فاشلة، تلك التي اعتقد أنها يمكن أن تبعده أمتاراً أو مسافات، حتى وإن كانت قصيرة، فترات نسي أنه مثل سمكة أو دولفين مُحال أن يخرج من البحر، ألِف الشواطئ والبحر الملاصق للأسياف (السيف) الرملية، حتى المسافات القصيرة تلك التي أجبرته على الابتعاد قليلاً بعض الوقت، لم تنزع حب الماء/ البحر.
عاد مثل هبوب الريح، عاشقاً وولهاً للبحر، لا سعادة توازي صوت الأمواج على الشاطئ، ولا رائحة البحر والسردين (العومة) وأعشاب البحر، لا يكفي أن تردد ذلك الحنين والعشق، وإنما هي حالة توحّد أبدي، قال له جرس داخلي يختبئ منذ الولادة على ساحل البحر: لن يفارقك هذا الأزرق أو تفارقه عند رحيلك الأخير، وربما رافقتك أيضاً أنغامه وأهازيجه البحرية.
كل تجارب الابتعاد فشلت وعدت مثل طفل أضاع أمه في غمضة عين، ثم بان أمامه وجهها الجميل.
كل صباح ومساء يقطع المسافات ذهاباً وعودة أمام البحر، لا يدري ماذا يفعل أو يصنع، ما الذي يشغل هذا البال والخاطر.. في داخله أصبح البحر وحده أكثر روعة وأهم من كل شيء في الوجود.
يمم البحر وترك ركام الوقت والزمن فأتته السعادة والفرح والحبور وكأنها ليلة عيد.
من البدء عرف ذلك، أن العشق هو ماء، وأن الحب هو البحر، والأيام ما هي غير محطات يعبرها العابرون إلى جهات الله الأربع، البحر وحده المحطة الأروع والأجمل والدائمة حياته الزرقاء، تماماً كما عرفه أول مرة، إنه بحر الحياة والجمال والصفاء والأحلام الجميلة، أينما وجد البحر أو النهر أو ماء المطر وجد الجمال والسعادة والحب..
بالأمس كنا مع الأصدقاء نعيد للبحر ذاكرته، نشعل في أطراف صباحه ومسائه قناديل الحب والزهور والجمال والسعادة، نعيد للطفولة شيئاً من بقايا الوقت وأزمنة أهلنا، أهل البحر الطيبين شيئاً من ذاكرة راحلة.
أصرّ صديقي، صديق الطفولة والخطوات الأولى في المدرسة التي لا تبتعد عن صوت البحر والماء كثيراً، وأيضاً الوحيدة التي تعلم أبناء البحّارة الحروف الأولى ليمازجوا بين الخط وحبال الشباك والصيد، أصر الصديق أن يخرج الأسماك والقباقب من البحر، وأن تذهب إلى تنور الشواء، كانت لحظات جميلة وأوقاتاً سعيدة، أعدنا للبحر ذاكرة البحّارة القدامى.
نسيم بحري هب بعد سكون جميل، وهي صيرورة الساحل وعنوان الحياة المتعارف عليها عند أهل البحر، حيث بعد السكون (الصخه) يداور/ يهب الهواء البحري من الشمال من أعماق بحر الخليج العربي ليأتي بنسمة باردة (ذنان)، وتشعر أنك تدخل مرحلة جديدة، أخرى من الوقت، وعادة تأتي تلك النسمة الباردة عند دخول فترة الظهيرة، لتخفف حرارة الجو، وتقلل من قوة أشعة الشمس، حالة خاصة قد لا يعرفها أبناء الجيل الجديد، بعد أن حاصرهم الإسمنت، قديماً تشعر بتغير الوقت والطبيعة من حولك، ويعلّمك الطقس الطبيعي، كيف تكون طبيعياً مع محيطك، تعرف كل تغير فيه فيزيد عشقك وانتماؤك للأرض.
جريدة الاتحاد