نجيب محفوظ.. يستيقظ فينا – بقلم د. واسيني الاعرج

واسيني الاعرج

هناك قوة صنعت الوجدان الأدبي والثقافي العربي، مستمرة معنا على الرغم من مرور الزمن وسلطة المحو، التي تمسح كل شيء في طريقها ولا تبقي إلا على ما تشاء إرادتها تثبيته، فكم من الأسماء غابت نهائياً بعد أن ملأت وقتها، وكم من الأسماء مستمرة معنا عبر القرون وعشرات السنين، متخطية الفعل الزمني في الأشياء.

نجيب محفوظ أحدها، فهو ليس أباً للرواية العربية فحسب، بل هو من رسخها وجعلها حقيقة موضوعيَّة في المشهد الثقافي العربي، لا يكفي أن تكون كاتباً فقط، لرواية أو خمس روايات أو حتى عشر، ولكن أن تملك قوة تكاد تكون قَدرية، أن توطّن فناً في أرض لم تعهده، وهذا أمر لا يتاح إلا للقليل، بسبب منعطفات تاريخية تختار أشخاصاً دون غيرهم.

لقد أمضى نجيب محفوظ عمراً طويلاً وهو يحرث في الماء إلى أن استطاع أن يجعل من الرواية فناً عربياً بامتياز، كثيراً ما لامه المثقفون على مواقفه السياسية التي لم يكن موفَّقاً فيها دائماً.. محفوظ رجل كبُر في المؤسسة يعني في الإدارة التي هي الدولة المصغرة بكل نظمها الفارغة أحياناً، وانضباطها المفزع، الذي لا يمكن تجاوزه، فهو يحمل في أعماقه الكثير من أثقالها وأوهامها على الرغم من انتقاده لها نقداً لاذعاً.

قد عبر نجيب محفوظ زمناً طويلاً وصعباً، وعرف هذه المؤسسة بعمق عن قرب، وكتب عنها، وبحث أحياناً عن رضاها، وعدم الاصطدام معها بشكل مباشر، يعرف جيداً أنها طاحونة قاتلة، هو الذي انتقدها بعنف في كل كتاباته.

وافق المؤسسة على اتفاقيات كامب ديفيد، واعتبرها مخرجاً من حالة اللاحرب التي لا أحد غير الفلسطينيين كان يدفع ثمنها، لم يكتب عن فلسطين كما يليق بروائي كبير، صوته مسموع عالميّاً، وهو يدافع عن نفسه في حوار تلفزيوني مع فاروق شوشة بعد فوزه بنوبل، أن منظمة التحرير باركت له فوزه!، رفض أن يصطدم مع الأزهر وألّح، بل وأوصى، بألا تنشر رواية «أولاد حارتنا» الإشكالية، إلا بمقدمة من شخصية مرموقة من الأزهر، وكان له ذلك في النهاية، فقد صدرت الرواية بمقدمة من الكاتب أحمد كمال أبوالمجد، لكن ذلك كله لم يمنعه من انتقاد المؤسسة الدينية نقداً لاذعاً، في مختلف رواياته.

في النهاية، انتصر نجيب محفوظ للرواية أولاً وأخيراً، كفعل حر ودائم يتخطى السياسي الطارئ، فقد ذهب نحو الديمومة وليس نحو الطارئ، ومن يقرأ نجيب محفوظ اليوم، بدون مسبّقات سياسية جاهزة، لا يشك لحظة واحدة في جرأته وقوة نفاذ بصيرته، لهذا يجب دوماً في التحليل عدم وضع الصفة الثانوية، أي محفوظ السياسي في واجهة التحليل، بدون أن يعني ذلك إخفاء أخطائه التي يجب أن تنتقد، لكن بوضعها في سياقها، والتعمق أكثر في الصفة الجوهرية التي هي الكتابة الإبداعية، والرواية تحديداً.

صحيفة الرؤية