وُلِدتُ ونشأتُ في دلتا النيل، حيث يمتزج الخيالي والغيبي بكل تفاصيل الحياة اليومية، وتتداخل الموروثات الشعبية من الحضارة المصرية القديمة مع نظيرتها القبطية والعربية الإسلامية.
وترى الروائية منصورة عز الدين، صاحبة رواية «مأوى الغياب» المرشحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب، أن القراءة هي البذرة الأولى للكتابة، قائلة: «يروقني أن أتخيل علاقتي بالكتابة بدأت في اللحظة التي بدأت فيها القراءة، وأنا في السابعة من عمري».
وتضيف عز الدين، في حوارها الخاص مع (الاتحاد) إلى أنها لم تشرع في الكتابة المنتظمة سوى بعد تلك اللحظة بأكثر من عشر سنوات، «لكن على مدى هذه السنوات العشر كانت أحلام اليقظة منفذاً للتخييل غير المكتوب، ومع بداية دراستي الجامعية انتظمت في كتابة القصص وفزت بجائزة للقصة القصيرة على مستوى الجامعات المصرية، ما سهّل لي النشر في جرائد ومجلات معروفة».
وعن مؤلفاتها التي تحيك خيطاً من قراءاتها، سواء للموروث الفرعوني أو الإنساني، وبمن تأثرت؟
– أجابت: الموروث الديني والميثولوجيات القديمة عمومًا من منابع الإلهام الأساسية، وأتعامل مع التراث الإنساني باعتباره تراثي الخاص، وللثقافتين العربية والمصرية القديمة حضور بارز في تكويني الثقافي، لكن هذا لا يمنع الانفتاح على الثقافات الأخرى واستلهامها، روايتي «أخيلة الظل»، على سبيل المثال، بنيتها مستلهمة من الفلسفة الطاوية والثقافة الصينية القديمة.
وتابعت: تأثرت جداً بالشعر العربي القديم وتراث التصوف الإسلامي، خاصة في جانبه المرتبط بالفلسفة، وفي «مأوى الغياب» إشارات عديدة لكُتَّاب أقدرهم، لكنني أرغب في التشديد على أن التأثيرات الأعمق لا تكاد تُلحظ، إذ لا يمكن تعقبها في الأسلوب أو العالم الفني أو النبرة. أقرأ امرؤ القيس وطرفة بن العبد مثلاً فيكف العالم عن أن يظل كما كان. تتجدد عيناي وتمتلكان القدرة على تخطي حُجُب الزمان والمكان. أجدني في عالم قوامه رموز وأحجيات وطلاسم تشعل مخيلتي ولا تربكها. أبصر سماءً موشاة بنجوم تكوِّن خريطة تقود خطاي نحو ما لا أعرف وصحراء بلا انتهاء ظاهرة كشمس وغامضة كأعماق بئر.
النص يناوشني
أمّا عن بداية مجموعتها «مأوى الغياب» وإيماءاتها ما بين عالم الكتابة مرموزاً إليها بـ «تحوت» المصري، وفلسفة التلاشي، وكيف أنجزت هذه الفنيات؟ من الموروث والمخيلة والواقع؟ ولماذا؟
تقول منصورة عزالدين: القصة الأولى في «مأوى الغياب» كُتبت مبكراً جداً، إذ كانت فصلاً من «أخيلة الظل»، وفي مرحلة من مراحل الكتابة أدركت أنها منفصلة عن عالم الرواية ومكتنزة بعالم يخصها وحدها ويمكن توسيعه لاحقاً، وحالما انتهيت من كتابة «أخيلة الظل» وبدأت في كتابة رواية أخرى، وأثناء ذلك، ظل النص المُرجَأ يناوشني ويلح على مخيلتي.
وتابعت: كنت ألتقط صوراً مختلفة للنيل ما بين الصعيد والقاهرة والدلتا، وصوراً أخرى لجبال أو بحيرات وغابات خلال أسفاري من دون إدراك أن لهذا علاقة بما أنوي كتابته، غير أن لحظة الإدراك حدثت وأنا في زيارة لمعبد الربة حتحور في دندرة بمحافظة قنا، أمام الجداريات والأعمدة والأسقف الباهرة بهذا المعبد، انبثقت في ذهني شخصية «ربّة الطلاسم»، وبدت كأنها فتحت مغاليق العمل أمامي، فعدت إلى مسودة المجموعة، وأحسست كأنها تكتب نفسها بنفسها، ربما لأنها اختمرت في ذهني لمدة طويلة اكتنفها البحث وتدوين الملاحظات والتقاط الصور التي من شأنها تحفيز مخيلتي.
وأكدت: كانت عملية الكتابة رحلة تعلم أيضاً. بالنسبة لجزئية لماذا في سؤالك، فجوابي المفضل عليها في سياق الحديث عن الكتابة هو: ولِمَ لا؟ أحب التفكير في الكتابة، انطلاقاً من مقولة بورخيس: «أكتب بجدية الطفل الذي يلهو». واللهو له علاقة وثيقة بتجريب الاحتمالات المختلفة والركض خلف تساؤلات مثل: ماذا لو؟ بحثاً عن سيناريوهات بديلة للسيناريو القائم وعوالم موازية للعالم الذي نعيش فيه، ليس هرباً منه، بل سعياً لتفكيكه، وإعادة تركيبه من جديد كي نصل إلى فهم أعمق له.
ثلاثية منشغلة بالكتابة
* برأيك ما المحور الأساسي بين «ما وراء الفردوس»، القائمة القصيرة للبوكر 2010، و«جبل الزمرد»، جائزة أفضل رواية معرض الشارقة الدولي للكتاب 2014، و«نحو الجنون» جائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب 2014»، و«مأوى الغياب»، القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2020»؟
– في ظني أن «جبل الزمرد» مثَّلت نقطة تحول في كتابتي، وكانت أشبه بحلقة وصل بين عالمَي الروايتين السابقتين عليها: «متاهة مريم» و«ووراء الفردوس». وشكلت «جبل الزمرد» مع «مأوى الغياب» ما يشبه الثلاثية المنشغلة بالكتابة، حيث يمكن النظر لـ «جبل الزمرد» كمحاولة لتفحص العلاقة بين الشفاهي والكتابي، انطلاقًا من أفكار جاك دريدا و«محاورة فايدروس» لأفلاطون، وفي «أخيلة الظل» تساؤل مضمر عن دور الأدب والفن أو الخيال عموماً في واقع بالغ العنف، و«في مأوى الغياب» يتسع الانشغال بسؤال الكتابة واللغة في ظل الدمار والحروب.
أين النقد؟
ترى عز الدين المشهد السردي العربي ثرياً، مؤكدة غياب الفرز النقدي الذي قد يحيل هذا الثراء إلى فوضى، وأكملت: يلفت نظري، مثلاً، شيوع تقييم الأعمال الأدبية بناءً على موضوعها بالأساس، وفي هذا خلل كبير في النظر إلى الفن، فما أهمية أن تتناول هذه الرواية أو تلك موضوعاً نراه مصيرياً أو مهماً إن لم تقدم جديداً على المستوى الفني أو الجمالي؟! في هذه الحالة، يغدو الموضوع «الجاد» أو «الرصين» مجرد درع تحتمي خلفه السطحية والتهافت والتقليد.
وعن القراءة والكتابة في زمن الكورونا، قالت: قضيت الشهر الأخير كله تقريباً في متابعة تطورات انتشار الفيروس في العالم، وبما أن الأزمة قد تمتد، أحاول الآن تنظيم وقتي والعودة إلى جدولي المعتاد المنقسم بين القراءة والكتابة.
واختتمت: أسرُّ لـ «الاتحاد» بأن روايتي الجديدة إيماءة تقدير ومحبة للبصرة خلال القرن الثاني الهجري.
جريدة الاتحاد