إن العمل الصحفي عموماً ليس معنياً بالصناعة التي تآكلت في الكثير من الأماكن بفعل طغيان الحل الرقمي، والانفتاح على إسهامات الأفراد والمؤسسات في صناعة الحدث، دون الحاجة إلى وصفة الصحافة السحرية في التأثير على العقول والاتجاهات، لكنه معني كذلك بنا كأفراد انقلبت حياتهم رأساً على عقب دون أن يكون لهم يقين بالمستقبل يركنون إليه حين يتخذون قراراتهم المصيرية في شؤون الحياة العامة والخاصة اعتماداً على محتوى يفترض به أن يضيء لا على أخبار الساعة وحدها؛ بل ويحلل القضايا المختلفة ويسهم في توضيح أسبابها وآثارها، وصياغة اتجاهات مختلفة للرأي تخدم المجتمع بمؤسساته وأفراده.
عندما نتحدث عن موت الصحافة الورقية فلا بد أن نحدد ما نعنيه، فهل نحن نشير إلى ضعف الأداة، أم المحتوى، أم المهنة؟. وفي كل نقطة يطول الحديث ويتشظى مثل ما تشظت الصحافة تحت وقع معاول الرقمنة بسبب ممارسات غربت هذه المهنة كما غربت الفرد، أما تفشي أزمة كورونا، فقد عجل في دوران الطاحونة لا أكثر، فقد واجهت الكثير من المؤسسات الصحفية العريقة في الشرق الأوسط- على سبيل المثال لا الحصر- خطر الإغلاق وكان آخرها صحيفة الحياة السعودية التي اضطرت للتوقف هذا العام بعد سبعة عقود من انطلاقها، وفي المقابل صمدت الكثير من الصحف الورقية في دول مثل اليابان والصين والهند وأستراليا بسبب قدرتها على التكيف مع اختبار الجائحة.
لا يعني صمود بعض التجارب الصحفية حول العالم أنها لم تواجه اختبارات من نوع آخر، ففي اليابان على سبيل المثال انخفض متوسط عدد الصحف اليومية المطبوعة ذات الاهتمام العام والخاص بنحو مليوني صحيفة، أما التحدي الثاني فيتمثل في طبيعة القارئ؛ حيث لا تزال فئة من القراء تتمسك بالصحيفة الورقية وهي تتمثل فيمن تجاوزوا سن الخمسين، بينما يحجم من تتركز أعمارهم في عمر الأربعين فأقل عن قراءة الورقي مفضلين عليه قراءة التواصل الاجتماعي، وذلك حسب دراسة أجرتها جمعية ناشري ومحرري الصحف اليابانية عام 2018.
إن قرار دعم وتمويل الصحافة الورقية في أي مجتمع يجب أن تسبقه دراسة تفصيلية كأساس لخطة استراتيجية واضحة أن تطال محاور عدة أهمها: طبيعة الجمهور واتجاهاته، المحتوى، الأداة، العاملون في المجال ومدى تكيفهم مع تحدي المضمون والوقت والميزانيات، الاستراتيجيات التسويقية والإعلان، طبيعة المنصات الرقمية، وكذلك خطط النشر والتوزيع.
ونطرح هنا فكرة مختبر مستقبلي للصحافة بكل أنواعها؛ بحيث يتم وضع هذه الصناعة ضمن مسار يهتم بالتطبيق ولا يسقط النظرية من الحسبان، فما أحوج مجتمعاتنا للصحفيين الحقيقيين الذين يعيدون صياغة توجهاتنا المستقبلية بأسلوب صديق للمهنة وأخلاقياتها وداعم للمجتمع ومستقبله.
جريدة الخليج