من المعروف أن الأديب المصري الكبير نجيب محفوظ، لم يكتب مذكراته أو سيرته الذاتية، وعندما سُئل عن ذلك أجاب: «هناك عشرات المقابلات معي في مختلف وسائل الإعلام، ولا حاجة توجد لكتابة سيرتي الذاتية».
هذه الآراء جاءت على شكل رسائل قصيرة ومكثفة، كأنها كُتِبت لعصر وسائط التواصل الاجتماعي، وليس للزمن الذي كُتِبت فيه. وكان قد تم نشرها أولاً على شكل حلقات في مجلة «أخبار الأدب» المصرية، قبل أن تصدر في كتاب عام 1995 م، كما تم نشر «أحلام فترة النقاهة»، على شكل حلقات أيضاً، في مجلة «نصف الدنيا»، قبل أن تصدر في كتاب عام 2005 م، وقد شكّل هذا الكتاب آخر أعمال نجيب محفوظ، الذي تُوفّي عام 2006 م، وبعد وفاة محفوظ بتسعة أعوام، تم كشف الستار عن بقية الأحلام، لتصدر في جزء ثانٍ من الكتاب عام 2015 م، أضيف إلى عنوانه عبارة (الأحلام الأخيرة)، ليصل عدد الأحلام إلى أكثر من 500 حلم.
كانت بطلة أحلام نجيب محفوظ بلا منازع، كما تقول الصحافية سناء البيسي، التي كتبت مقدمة الكتاب، هي «الست أم إبراهيم»، أمه المتدينة فاطمة، التي استوحى منها 22 حلماً، هي الأكبر في مجموعة الأحلام، كيف لا، وهو القائل: «الإنسان طول فترة حياته يعتمد على الأم في أشياء كثيرة، قد لا تكون بالضرورة أشياء مادية، وإنما يعتمد عليها عاطفياً، لكن برحيلها يفقد سنداً عظيماً في الحياة، ويدرك أنه قد أصبح وحيداً في العالم… رحيل والدتي أثّر فيّ كثيراً، رغم أنني كنت قد تخطيت الخمسين، وكانت هي قد تخطت الثمانين».
يوم الجمعة الماضي، 14 أكتوبر، حلت الذكرى 27 لمحاولة اغتيال نجيب محفوظ، على خلفية اتهامه بالكفر والخروج عن الملة، بسبب روايته الشهيرة «أولاد حارتنا»، على يد شابين تكفيريين، أقدم أحدهما على طعنه بسكين في رقبته. كان الشاب قد انضم قبل حادثة الاغتيال بأربع سنوات، لجماعة متشددة، واعترف الشابان أنهما حاولا قتل محفوظ، لأنهما ينفذان أوامر أصدرها أمير الجماعة، بناء على فتوى للشيخ عمر عبد الرحمن، رغم أنهما لم يقرآ الرواية! صحيح أن الطعنة لم تصب محفوظ في مقتل، لكن أعصاب الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، تضررت بشدة، وكان لهذا تأثيرٌ سلبي في عمله، حيث إنه لم يعد قادراً على الكتابة سوى لبضع دقائق يومياً.
حلم 395 من «أحلام فترة النقاهة»: (وجدتني في حفل لتكريم رموز الثقافة والعلم، ووقف الرئيس، وتحدث عن «أولاد حارتنا»، فنفى عنها أي شبهة إلحاد، ونوّه عما فيها من تسامح واستنارة).
بعد أن كان محفوظ قد كتب 146 حلماً من «أحلام فترة النقاهة» بخط يده، قبل محاولة الاغتيال، قام بإملاء ما تلاها من أحلام، على سكرتيره الحاج صبري محمود، ليستعيد بعد ذلك سماعها منه مراتٍ، مراجعاً ومنقحاً، حتى يطمئن ويرضى تماماً، فيتركها جاهزة للنشر. وقد قال النقاد عنها، إنها ابتكار جديد في فن السرد، وإنها من أجمل ما أبدع وألّف محفوظ، وإنها من أعلى مراتب الإبداع والفلسفة والشفافية والحكمة، بينما قال محفوظ إنه مرتاح لهذا الشكل، وراضٍ عما يؤلفه، وإن أحلامه تطورت مع الزمن، فأصبحت أكثر تأثراً بالواقع والأحداث الجارية.
«وفي ليلة الموسم، جمعنا الكهف، فلم يتخلف أحد.
في الخارج عوت الرياح الباردة وزمجرت.
في الداخل، جاء كل صدر بحنينه، حتى عمت نشوة شادية.
وقال الشيخ عبد ربه التائه:
• هنيئاً لمن قام بواجبه في السوق، أو تحدى الكدر.
غضضنا الأبصار من الحياء، وأصغينا إلى ناي الراعي القديم.
وقال الشيخ:
• انظروا إلى باب الكهف، ولا تحولوا عنه الأبصار.
وخفقت القلوب، حتى ارتعشت جذورها في انتظار الفرج.
وفي لهفتنا، رأته البصيرة وسمعته السريرة».
كان هذا آخر ما قاله الشيخ عبد ربه التائه، مختتماً «أصداء السيرة الذاتية». ربما كان ما لم يقله هو الأكثر إثارة، وهو ما يبقي الرواية مستمرة، مثل كل الروايات ذات النهايات المفتوحة.
ما لم يقله عبد ربه التائه – بقلم علي عبيد الهاملي – جريدة البيان