ماذا لو أن أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا وافقت على دخول الشاب أودلف هتلر قسم الرسم في الأكاديمية، ولم ترفض قبوله مرتين؟ ماذا لو أن هذا الشاب، الذي عاش طفولة مضطربة بسبب عنف والده، كان قد أكمل دراسته الثانوية ليتمكن من الالتحاق بالمدرسة المعمارية التابعة للأكاديمية، بعد أن فشل في إقناع مسؤوليها بموهبته في الرسم؟
يقول هتلر في كتابه الشهير «كفاحي» إنه لم تستهوه مهنة، ولم يكن يميل إلى الوظيفة التي كانت تبدو له كالحبل يشدّه إلى الأسفل، وكان يجد في نفسه موهبة القائد. كان والده يعلم أن الدروس الكلاسيكية لا تهمه، ولكن بالرغم من ذلك كان يريد أن يجعل منه في المستقبل موظفاً.
عبثاً حاول إغراءه بمحاسن الوظيفة التي عاش هو حلوها ومرّها، حيث كان موظفاً مثالياً في الجمارك، وبعد أن أحيل إلى التقاعد، ذهب بأسرته إلى مدينة لينز، مسقط رأس هتلر، ثم إلى قرية لامباخ، حيث انصرف إلى أعمال الزراعة في أرضهم.
دخل هتلر مدرسة لامباخ، ثم انتقل إلى معهد الفنون الجميلة، وهناك اكتشف أنه يملك موهبة في الرسم، كما يقول، لكن والده أكد له مجدداً رغبته في أن يكون موظفاً، وكان جوابه أنه قرر أن يصبح مصوراً أو رساماً، فأغضب ذلك والده، لكنه تشبّث برأيه وتشبث الوالد برأيه، فأخرجه من المعهد وأعاده إلى المدرسة، وهناك ثابر على دراسة فن الرسم، وأهمل دروسه الأخرى.
كانت خيبة أمل هتلر، كما يقول، كبيرة حين رسب في امتحان أكاديمية الفنون، قسم التصوير بالزيت.
ولدى سؤاله عن السبب في رسوبه، قال له عميد الأكاديمية إن الرسوم التي قدمها تؤهله لدخول فرع هندسة البناء، وشجعه على الالتحاق بهذا القسم، لكن عدم حصوله على شهادة الثانوية حال دون ذلك.
كم كان التاريخ سيتغير لو أن أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا وافقت على دخول هتلر قسم الرسم، أو أنه حصل على شهادة الثانوية كي يتمكن من دخول قسم المعمار فيها على الأقل، أو أن التوفيق حالفه عندما كان ينسخ المناظر الطبيعية الموجودة على البطاقات البريدية ويبيع لوحاته إلى التجار والسائحين في شوارع فيينا التي يسميها المدينة اللاهية، والتي تشرد فيها وعاش أشقى أيام العمر، كما يصفها، حيث عمل معاون بناء ودهاناً ليحصل على قوت يومه؟ إذن لكانت أوروبا والعالم قد تجنباً واحدة من أسوأ الحروب في تاريخ البشرية، وتم حقن دماء ملايين البشر الذين قُتِل من قُتِل منهم، وتشوّه من تشوّه، وتشرّد من تشرّد في الحرب العالمية الثانية.
عام 1970 ذهب شاب فلسطيني إلى إسبانيا لدراسة الطب، لكنه تحول لدراسة الأدب الإسباني مع صعود تيار الرواية اللاتينية في العالم حينها. وبينما كان ذات مساء في أحد مقاهي برشلونة، قابل صديقاً يحمل في يده كتاباً نصحه بقراءته.
كان الكتاب هو الطبعة الأولى من رواية غابرييل غارسيا ماركيز الشهيرة «مئة عام من العزلة». عندما بدأ الشاب قراءة الرواية أصيب بصدمة. بهرته لغة الرواية العجائبية، كما يصفها، فقرر أن يترجمها إلى العربية. ترجم فصلين منها ثم أهملها ونسيها في غمرة انشغالاته.
لكن ماركيز ظل يشده، فترجم له قصصاً قصيرة نشرها في صحف دمشق التي عاد إليها من إسبانيا. عام 1979 ترجم لماركيز روايته القصيرة «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه». لفتت الترجمة انتباه الناقد حسام الخطيب، فكتب أن شاباً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقرّاء العربية. هذه الملاحظة قادت الشاب إلى احتراف مهنة الترجمة متخلياً عن حلمه في أن يكون روائياً.
يقول أشهر مترجمي روايات ماركيز، صالح علماني، الذي توفي عام 2019 عن 70 عاماً: هذه الملاحظة قادتني إلى احتراف مهنة الترجمة. قلت لنفسي إن تكون مترجماً مُهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً. هكذا مزقت مخطوط روايتي الأولى من دون ندم.
ترى كيف كان سيتاح لنا أن نطّلع على روايات ماركيز مترجمة إلى اللغة العربية بهذه الروعة لو أن صالح علماني، عليه رحمة الله، مضى في طريقه لدراسة الطب ولم يستهوه الأدب الإسباني فيتحول لدراسته؟
ليست الصدف هي التي تغير مجرى حياتنا وتنقلها من ناحية إلى أخرى، ولكنها الأقدار هي التي توجّه حياة البشر كيفما تشاء.
جريدة البيان