تحول مجموعة من الكتّاب بأوروبا وأميركا إلى بورصة عالمية فاعلة كنظيرتها المعنية بالقمح والذهب والفضة والبترول
ما جدوى الأدب؟ ما فائدة تدريس الأدب؟ هي عبارات نسمعها كل يوم في الجامعة وفي الأسواق وحتى لدى أصحاب القرار.
في البلدان التي يحمل فيها المواطن نظرة إيجابية تقديرية للطب والطبيب، للنظافة وعامل التنظيف، لقيمة العمل والعامل، للمواطنة واحترام حرية المرأة، للطبيعة واحترام الشجرة، لاحترام حقوق الحيوان، في هذا المجتمع يتم احترام الأدب ويتوج الأديب.
كلما تكرست نظرة الاحترام والتقدير للأدب، كما يحدث في البلدان المتقدمة تكنولوجياً وحضارياً، اعلم بأن كل مهنة بقيمتها، وكل ذي مهنة في مكانه وبمكانته، القيم الاجتماعية واضحة والمواطنة المشتركة واضحة.
حين يكون الطبيب النفساني أو الجسماني في مكانه الطبيعي لا ينافسه دجال من أهل “الرقية الشرعية”، هذه المخلوقات التي تفشي في المجتمع أمراضاً كارثية، ومع ذلك يسكت الجميع عنها وكأنهم إذا ما كشفوا الدجال الذي يتستر بالدين دخلوا جهنم، في مجتمع مثل هذا لا يمكن أن يكون للأدب ولا للأديب مكانتهما وقيمتهما الاجتماعية والرمزية.
وفي مجتمع يكون فيه السباك “البلومبيي” في موقعه الطبيعي يؤدي دوره، والخباز في مكانه يخبز خبزه، وبائع الزهور في مكانه يوزع الأمل في الصباحات على الناس، وبائع التوابيت في مكانه يمنح الحزن شيئاً من الجمال، في مجتمع كهذا حيث الكل في مكانه لا بد وأن يكون الأدب والأديب أيضاً في مكانهما الطبيعيين.
في مجتمع، كمجتمعنا، حيث بقدرة قادر يتحول السباك إلى فلاح أو بناء أو مربي نحل أو أستاذ التربية المدنية، والأمر عادي جداً، وبالغرابة نفسها يتحول الخباز إلى بائع خضار أو ممرض والأمر عادي جداً، ويتحول ميكانيكي السيارات بين عشية وضحاها إلى بائع الزلابية في رمضان المبارك والأمر عادي جداً. في مثل هذا المجتمع لا نستغرب أن يكون الأديب فقيهاً ولصاً وتاجراً وراقياً شرعياً والأمر عادي جداً. وانطلاقاً من هذا الخلل الاجتماعي الحضاري الثقافي المريع تجمع الجماعة والفرد على حد سواء بألا حاجة لهما بالأدب والأديب.
في المجتمعات المتوازنة التي تُحترم فيها القيم الإنسانية والمهنية والرمزية، يبدع الأديب في الرواية والشعر والقصة نصوصاً وله قراء وله ناشر وله مؤسسات تحمي حقوقه وتصون حريته في الفكر وفي الرأي وفي الحركة والمناقشة، بعض الكتاب لهم قراء كثر وبعضهم أقل… أما في بلداننا العربية والمغاربية، فالأمر غائم ومخلوط ومتداخل، وهذا الخلط وهذه الضبابية مقصودان كي لا يصبح للأدب ولا للأديب مهمة واضحة، وكي لا يشعر الناس بالحاجة إلى وجود المبدع.
في بلداننا، ونظراً لهذا الخلط المهني والمؤسساتي والأجناسي، يكتب الكاتب في الليل الرواية أو القصيدة التي يفترض أن تكون بوابة للحرية وللدفاع عن القيم الإنسانية الكبرى، لينهض في الصباح فيلبس قناع فقيه يدافع عن التطرف وعن “داعش”، ويمجد قتل النساء الفيمينيسيد باسم حق الدفاع على “الشرف” أو لمناهضة “التبرج”.
في البلدان الأخرى التي يكون فيها سُلَّم القيم الإنسانية واضحاً وسلم المهن بيِّناً وتحترم فيها الحقوق والواجبات الواضحة أيضاً، وتحفظ فيها حرية الرأي وحرية الإبداع، هناك الأديب يكتب الأدب ويدافع عن بهجة الحياة في نصوصه وفي حياته أيضاً حتى آخر رمق، حتى آخر نص، أما الأديب في البلدان العربية والمغاربية حتى وإن حدث و”أخطأ” في مرحلة من حياته الأدبية، بإنتاج نصوص تدافع عن الحياة والحرية والعدالة والمرأة والمساواة، وهي المرحلة التي يطلقون عليها عادة اسم: المراهقة الأدبية للتقليل من أهمية دور الأدب في الدفاع عن الحرية، فما يكاد هذا المبدع أن يصل عتبة الخمسين، وتحت ضغط محيط مقفول ومحبط وعدواني، حتى يبدأ في الندم والتنكر لما “اقترفه” من ذنب أدبي! فيشرع في مسيرة البحث عن صكوك الغفران، فيذهب للحج أو العمرة وهو يردد: أذهب لغسيل عظامي مما ارتكبته يداي وقلمي من نزق. في هذا البلد يعتبر مثل هذا الأدب طيشاً والأديب “شيطاناً”، وبواقع كهذا لا حاجة لمجتمع بالأدب ولا بالأديب.
الأديب في البلدان الأخرى يعيش أديباً، بغض النظر عن نجاحه أو فشله، لكنه يعيش حياته أديباً حتى آخرها. في بلداننا الأديب لا يموت أديباً بل يموت فقيهاً أو داعية أو لا شيء.
كل أدباء العالمين العربي والإسلامي، إلا ما ندر، يحلمون أن يموتوا كما يموت الأئمة والفقهاء والدعاة، ولأن البدايات بخواتمها، فلا حاجة لمجتمعنا بالأدب ولا ضرورة لوجود أديب.
في العالمين الأوروبي والأميركي، تحولت مجموعة من الكتّاب إلى بورصة عالمية فاعلة وحقيقية كبورصة القمح والذهب والفضة والبترول والحليب.
هناك كتّاب مبدعون تحولوا إلى رموز كبيرة كعملات بلدانهم المحلية أو كألوان أعلامهم الوطنية، فويلبيك وجون ماري لوكليزيو وغيوم موسو ودانييل بيناك ليسوا أقل من رينو أو بيجو أو العطر الباريسي أو نبيذ البوردو.
وفن المانغا الياباني كما كتاب هذا البلد من أمثال موراكامي أو كواباتا أو ميشيما أو يوشيكاوا، يمثلون طاقة اليابان اقتصادياً ورمزياً، فهم ليسوا أقل قيمة من فوجيفيلم Fujifilm أو سوني Sony أو كانون ِCanon أو نيتاندو Nitendo أو إبسون Epson، بل لا قيمة لهذه الصناعة الإلكترونية، وما كان لها أن تكون لولا احترام الإبداع الأدبي.
إذا كانت بلجيكا تفتخر بأن مدينتها بروكسل هي عاصمة الاتحاد الأوروبي، فمبدعها الاستثنائي هيرجي Hergé صاحب تانتان يمثل وحده عاصمة للعالم بأكمله وليس للاتحاد الأوروبي فقط.
وفي ألمانيا يحتفي المواطنون بكتابهم من أمثال هرمان هيسه أو غونتير غراس أو ستيفان زويغ وغيرهم، وهو احتفاء لا يقل عن ذلك الذي يخصص لتوحيد الألمانيتين أو الفخر بسيارة المرسيدس.
وفيليب روث أو هيمنغواي أو فولكنر أو جون شتاينبك أو جاك لندن أو إدغار ألان بو أو هنري ميللر أو توني موريسون بول أوستير بالنسبة للأميركيين كما للعالم، ليسوا أقل شأناً من أبوللو ومن جنرال موتورز.
وديستويفسكي وتولستوي وغوغول وتشيخوف وسولجنتسين ونابوكوف ليسوا أقل قيمة في المجتمع الروسي من المركبة الفضائية سبوتنيك ولا من قطعة السلاح الشهيرة الكلاشنكوف ولا من الفودكا.
حين يحترم المجتمع الأدب والأدباء، وتحترم حرية التعبير والإبداع، وتأخذ الأشياء أماكنها الطبيعية، والمنافسة الخلاقة تصبح سلوكاً الجميع، يتحول الكتاب إلى دورة اقتصادية فاعلة ومؤثرة في المجتمع. ففي فرنسا على سبيل المثال حققت مبيعات الأدب عام 2022 رقم معاملات لافتاً قدر بـ 4 مليارات يورو. وفي السياق ذاته، حققت الكتب الأدبية مبيعات مدهشة في السنة الماضية، في كل من بلجيكا وهولندا وألمانيا والبرتغال وإسبانيا وغيرها.
أما في البلدان العربية والمغاربية، وأتحدث هنا بالخصوص عن الجزائر، لا يزال الكاتب، الذي يعتقد بأنه أصبح “عالمياً”، ينتظر وزارة الثقافة كي تنشر “أعماله الكاملة” من دون أن يقرأها أحد، وينتظر أن يسافر على حساب الدولة في بعثات الأسابيع الثقافية أو المشاركة في معرض الكتاب في هذا البلد أو ذاك.
في الجزائر، من عجائب ما رأيت في هذا البلد هو مضمون وقيمة المكافأة التي تمنح للشعراء الفائزين في بعض المسابقات الشعرية التي قد تمتد على مدى سنة كاملة من التنافس، وقد يتم بثها على قنوات التلفزيون. تمثلت هذه المكافأة في منح الفائز “بطاقة طائرة” لأداء العمرة، مع احترامنا وتقديرنا للعمرة وللحج، لكنها هنا ليست في محلها، هذه المكافأة تعكس طبيعة العقلية الانتهازية التي تتعاطى مع الأدب والإبداع هي عقلية ضد الأدب، لذا فالمجتمع لا يرى أي جدوى من الأدب ولا من الأدباء.
إن المجتمعات التي يُحترم فيها إبداع الطبيب والخباز والنجار والتشكيلي والسينمائي والعطار والفلاح والموسيقي والمؤذن و… هي بالضرورة مجتمعات تحترم إبداع الأديب وتشعر بالحاجة إليه كشعوره بالحاجة للإبداعات الأخرى.
لماذا لا تجد مجتمعاتنا أية فائدة في الأدب؟ – بقلم أمين الزاوي