ليست الكتابة، بما هي تدوين للأفكار والمعاني، يسعى للتداول والانتشار، هي المنتج الفكري الأمثل والوحيد للباحث والناقد والمؤرخ والمشتغل في حقول المعارف الإنسانية المختلفة، إنها لا تعدو أن تكون صيغة من صيغ الاجتهاد والعمل الذهني الذي يفترض سبلاً متعددة الوجوه والمقاصد، إذ يمكن الفصل بين الإنجاز الثقافي العميق والمؤثر وإصدار المؤلفات المتلاحقة، ما دامت شواهد عدة في تاريخ الفكر والأدب تثبت دور الشفاهي، من التدريس إلى المناظرات، إلى الحوارات الممتدة في الزمن بين أجيال متباينة، وهو افتراض يؤكد أن الولع بمراكمة المنشورات من كتب ومصنفات جماعية ومقالات، ليس بالضرورة منتجاً للأثر، سواء في مجتمع المعرفة أو في المشهد الثقافي، ولا يمكن من ثم أن يتحول إلى هاجس رئيسي وحيد لكل مشتغل بالمعارف.
الكتابة نقيض المحاضرة والإملاء، امتحان مرعب ومحفوف بالشكوك، بينما إلقاء الحديث على مدونين فيه احتفال متنقل، استطراد وخطابة، وتقليب للمعاني والكلمات. لهذا كان الكاتب دوماً شخصاً مهووساً بعدم التكرار؛ لأن الكلمات تتحول في لحظتها إلى جمل، وتراكيب وفقرات، تتوسل أسلوباً ونسقاً، لا ينتظم بيسر. بينما المملي شخص مرتاح يترك محنة الكتابة للمريدين، والتلامذة، وبعدهم للشراح وكتاب الحواشي.
لا جرم إذن أن تملأ «الأمالي» الفصول والأقسام والمجلدات الطوال، نستحضر هنا رحلة ابن بطوطة التي كان إملاؤها في فاس بأمر من السلطان أبي عنان المريني، وقام بتدوينها الفقيه ابن جزي الكلبي. بل إن بعض أصناف هذه المدونات احتفظت بلفظ «الأمالي» عنواناً للتأليف، تنبيهاً لمصدر المكتوب، كتلك التي لأبي علي القالي الأندلسي، الذي اختار ألا يبذل جهداً في وصف ما أملاه، وحين أعجزته الوسيلة في وسم كتابه الذي أعقب «أماليه»، سماه: «ذيل الأمالي».
ويحضر إلى الذهن، في سياق هيمنة نزعة المحاضرة والمناظرة بقصد الإقناع الذهني المبني على الخطاب الشفاهي، النموذج المثير للفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين، الذي درس لسنوات في جامعة كمبردج قضايا المنطق وفلسفة اللغة والرياضيات، وكان مؤسساً لقواعد تفكير مستجدة للعلاقات المنطقية بين القضايا الذهنية والعالم، والذي على مكانته الكبيرة في تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة لم يخلف قبل وفاته إلا مؤلفاً وحيداً صغير الحجم (بعنوان لاتيني) هو: «تراكتاتوس لوجيكو فيلوسوفيكوس» (صدر سنة 1921)، وكل ما صدر له بعد وفاته من نتاج فلسفي هو تجميع من قبل تلاميذه لمحاضراته وأبحاثه غير المكتملة.
وفي أواسط الثمانينات من القرن الماضي قام الباحثان المغربيان كمال عبد اللطيف والطاهر وعزيز من شعبة الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، بجمع محاضرات أستاذ تاريخ الفلسفة المصري نجيب بلدي، الذي أقام لمدة طويلة بالمغرب، ونشراها بعنوان «دروس في تاريخ الفلسفة»، (صدرت عن «دار توبقال» بالدار البيضاء، سنة 1987). لم يكن نجيب بلدي يحظى بشهرة كبيرة في الوسط الأكاديمي رغم نهوضه بدور مؤسس في تكوين أجيال من الطلاب والباحثين ممن صنعوا مجد الدراسات الفلسفية بالمغرب، في حين لم يُصدر إلا مؤلف يتيم عن ديكارت في ستينات القرن الماضي.
وقبل إصدار محاضرات نجيب بلدي، قام بعض أساتذة قسم اللغة العربية بالقاهرة بجمع محاضرات الشيخ أمين الخولي ونشرها، وهو الذي لم يكن محتاجاً لمطبوعات لتأكيد دوره الريادي في الدراسات البلاغية والنقدية بالجامعة المصرية، وبعد أمين الخولي ونجيب بلدي جمعت أعمال عديد من المفكرين والأساتذة الرواد في مشرق العالم العربي ومغربه… بيد أنه باستحضار هذين النموذجين، فقط، نقف على ظاهرة ثقافية جديرة بالانتباه في الذاكرة الجماعية والثقافية العامة، وهي انخراط مجموعة من الباحثين في بناء حقول معرفية مختلفة عبر التدريس والتعريف بمناهج جديدة ونحت مفاهيم وترجمة أخرى وتكوين نخب يمتد تأثيرها لعقود طويلة، دون التفات للأثر المكتوب، حيث التحمت لديهم المعرفة بوقعها في المجتمع والوجدان العام. بالطبع لم يكن شاغل من قام بجمع محاضرات هؤلاء المعلمين الرواد هو إخراج كتب تخلد ذكرهم، ولا حتى إتاحة ما قدموه من محاضرات لعموم القراء فحسب، فهذا المأرب على نبله لا يمثل صلب القصد من تحويل تراث شفوي إلى كتاب جامع، وإنما الغاية الأساس، فيما أظن، هي مواجهة منطق اختزال الأثر في التأليف.
غير أنه في حالات أخرى تلتبس النزعة الإملائية بالتأجيل المسترسل للكتابة، ففي بعض مقاطع سيرته البديعة «صور الماضي» تحدث هشام شرابي، عن النزعة الشفاهية لأستاذه شارل مالك التي أخذته إلى الإغراق في مظاهر المحاضرة والسجال، مع ما يتصل بهما من ذوبان في الشأن الثقافي العام، وهي النزعة التي زاغت بصاحبها عن الإنجاز المعرفي «المحفوظ» والمتواتر عبر الزمن، وأبقته أسير التأجيل المطرد لمشاريع التأليف والكتابة، التي كان مؤهلاً لها خلال عمله بالجامعة، قبل أن ينصرف كلية إلى العملين السياسي والدبلوماسي، وتبتلعه طاحونة الخطابة… وفي مقطع دال من سيرة هشام شرابي نقرأ ما يلي: «من كان يستطيع السماع إلى شارل مالك يتحدث عن الفلسفة الإغريقية، عن سقراط وأفلاطون وأرسطو دون أن يقع في حب الإغريق والفلسفة الإغريقية؟… كان الطلبة يصغون إليه كما كانوا لا يصغون إلى أي أستاذ آخر… وكان أصدقاء شارل مالك وتلامذته ينتظرون اليوم الذي سيبدأ فيه بالكتابة والتأليف، إلا أنه، عدا عن مجموعة من الخطب والمقالات باللغة الإنجليزية (التي يجب اعتبارها سياسية إعلامية) لم يكتب إلا كتاباً واحداً في الفلسفة وهو: (المقدمة: القسم الأول)».
ولقد سيطرت سمة التأجيل وما يتصل بها من خضوع لا واعٍ لسطوة المحاضرة، على عدد كبير من المفكرين العرب، ممن حولوا الكتابة إلى صفة مجازية تدل على النيات، أكثر مما تتصل بالرصيد المتحقق، حيث استثمر عدد منهم في العملية التعليمة، وانصرف بعضهم إلى تكوين الطلائع الحزبية، بينما انشغل آخرون بالمهام السياسية مع ما يصاحبها من انصراف للخطابة.
والظاهر أن حسن الظن بالزمن، والنظر إلى المستقبل، بما هو امتداد متدفق دون حد، كان سمة مرحلة ما بعد استقلال الدول العربية، وبداية تكون نظم التعليم وتأسيس أغلب الجامعات الحديثة، ومن ثم كان الاضطلاع بدور نضالي للنهوض بالمجتمع، لدى نخبة واسعة من الجامعيين أهم من التأليف في حقل الاختصاص، تلك كانت سمة السوسيولوجي المغربي محمد جسوس، وهو شخص لا يعرفه القراء والباحثون العرب جيداً، لسبب بسيط هو أن الكتاب الوحيد الذي صدر له كان من إعداد طلبته. لم يكتب مداخلاته السياسية، ولا محاضراته في علم الاجتماع التي ألقاها على امتداد عقود في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس بكلية الآداب بالرباط، كان عمله مختصراً في المحاضرات التي تنطلق عند عتبة الجامعة وعتبة الحزب اليساري الذي كان عضواً فيه. ولهذا كان دوماً هو المبعوث المفضل للمكتب السياسي لحزبه لتأطير الشباب والإشراف على مؤتمراتهم، حيث كان باستطاعته دوماً أن يسل الشوكة من عجين التطاحن السياسي، والوقوف أمام فورة الحماس وجعلها دافعة نحو المستقبل. مع قيمة أساسية في شخصه هو الأكاديمي خريج جامعة برينستون الأميركية، أنه لم يؤمن يوماً بأن الأكاديمية حاجز معرفي مع الآخرين، لقد كان من أوائل المغاربة المختصين في علم الاجتماع، ممن جعلوا المعرفة الفلسفية والاجتماعية غير مقرونة بالجامعة، وإنما بالجدوى المجتمعية والسياسية؛ لذا قد يكون مجموع تلامذته في المجتمع المغربي أكثر بكثير ممن حضر دروسه، وحتى من شبيبة وأعضاء حزبه، كانوا في النهاية جمهور يسار منفتح، اعتقد دوماً أن السياسة عقيدة الحالمين الأبرياء، وأن العمل العام شأن نبيل، وأخلاق لا تخضع للضرورات والمغانم، وإنما للتضحيات التي تستبدل بالسلطة القدرة على توجيه المجتمع والرقي بطبقاته.
كُتَّابٌ بدون رصيد مكتوب -بقلم شرف الدين ماجدولين
جريدة الشرق الأوسط