أين ذهبت الأعمال الفنيّة في عصرها الذهبي؟ يكفي نموذجان من المألوف. تذكرون مسلسلي «علي الزيبق» و«الزيني بركات». المنطلق: إرادة تقديم عمل جيّد فيه مستوى من الإبداع. كان انتقاء الأدوار بدقة، فلا توجد فوارق بين الممثل والدور الذي يتقمصه، فكأنه هو. إضافة إلى الغايات الهادفة التي تعطي الأثر الفنيّ وزناً ورسالة من دون مساس بالجماليات.
الفارق بين المسلسلين كبير. «علي الزيبق» فيه روح كوميدية عالية. حكاية شعبية جاء تنفيذها شعبياً في أغنياتها وكل مراحلها، من دون وقوع في التهريج، بل إن الإسقاطات السياسية والاقتصادية لا تخلو منها دقيقة في كل الحلقات. بطولة الفيشاوي كانت على مقاسه. الصورة في «الزيني بركات» مختلفة كليّاً، غير أن الإسقاطات واحدة، بالرغم من التباين في حجم العمل وأبعاده ومساحته. هذا الأثر ضخم في كل جوانبه وتفاصيله. فيه تحشيد لعدد هائل من الشخصيات، ما يرينا عصراً زاهياً مزدهراً بالفنانين في مصر. منظومة مهيبة من المواهب الفذة. كيف تساقطت أوراق الخريف؟ كيف نضبت مياهك فانقطعت عن الخرير، يا نهر؟ هل يجرؤ أحد على المقارنة بالإنتاج اليوم؟ من يصلح لدور علي الزيبق غير الفيشاوي؟ هل يمكن أن ترى أن نبيل الحلفاوي ليس هو زكريا بن راضي؟
أين راحت تلك المواهب في كل صغيرة وكبيرة؟ هل ترى القيمة الفنية المضافة، حين يكتب عملاق الزجل عبد الرحمن الأبنودي بدائع لا تنسى مثل: «بطّة يا بطّة.. يا فلفل شطّة.. دقن الكلبي كلتها القطة» في «على الزيبق»؟ الشعراء الزجالون، قامات خوفو: بيرم التونسي، الأبنودي وأحمد فؤاد نجم.. كأنما قال فيهم الطغرائي: «حلو الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت.. بشدة البأس منه رقّة الغزلِ». أين الورثاء؟ انقطع نسلهم؟ التلوين المقاميّ الذي نسمعه في أغاني «الزيني بركات»، لا تجد بعض بعضه في الغناء الهابط اليوم.
للإبداع وقود وطاقة ومحركات. تلك هي التي ضاعت. حين جرّدوا الأمّة من قضاياها صارت على رصيف الحضارة وهامش التاريخ. الإمبراطورية التي لم يعرف ماضي البشر نظيراً لها في القدرة والقوة، لم تستطع أن تعيش لحظة واحدة بلا قضية، أي بلا عدوّ. بمجرّد سقوط الاتحاد السوفييتي اختلقت قضية بديلة، هي الإسلام والمسلمون، الذين ليسوا قوى عظمى، فصارت تنفخ البالونات وتفرقعها.
لزوم ما يلزم: النتيجة الدعابية: تعقّدت المسألة. صار علينا إعادة القضية إلى مركزيتها لإحياء الفنون.
جريدة الخليج