في وداع أبي طلال – بقلم ناصر الظاهري

ناصر_الظاهري

أتذكر.. وحتى اليوم، حينما تناقل إلى مسامعنا أن هناك مديراً مواطناً قادماً من الكويت ومتعلماً وربما جاء معلماً ومديراً لمدرسة الثقافة العسكرية في أبوظبي، بقينا نرتقب حتى وصل شاب يرتدي لباساً مدنياً «سيفلين» في سيارة أميركية طويلة ذهبية اللون، وتحمل لوحة أرقام دولة الكويت، فرحنا في البداية لأن كل من مر علينا من مديرين سابقين إنجليز، ويحملون رتباً عسكرية عالية، فيهم تلك الانضباطية العسكرية، وصفة القساوة للجيش البريطاني، حتى مديرنا العربي، الأستاذ «خليل خريسات» من الأردن لا يقل عنهم شدة، وإن كان يتزين بلباس المدرسين القدامى بدلة وربطة عنق، استبشرنا بالأستاذ «سعيد عبدالله ناصر الجنيبي»، فقد كان وجهه سمحاً، ويعاملنا بلين لم نعهده، وشعرنا أنه يفهمنا، وقريب منا، وسيارته الأميركية الذهبية كانت من نسيج أحلام أكثرنا، نحن الذين لم نعرف إلا سيارة «الجيب» العسكرية، وإن لانت قليلاً وأصبحت تحمل «نمرة» خصوصية مدنية كانت «بسطه».
سيصبح «الأستاذ سعيد» يعرف بين زملائه في المدرسة بلقب عربي نحبه، «أبو طلال»، لكن نحن الطلبة لم نجسر إلا بتسميته «الأستاذ سعيد»، وحتى حين أصبح يحمل رتبة عسكرية، بقينا نناديه بـ«الأستاذ سعيد»، وحتى حينما كبرنا، وصرنا نلتقيه، لا تخرج منا إلا تلك التسمية القديمة، والتي تحمل التبجيل والاحترام للمعلم، «الأستاذ سعيد»، وأتذكر أنني التقيته مرة بعد طول غياب يمشي في «المول» وبصحبة بعض من الأساتذة القدامى، فلم تخرج مني إلا جملة «الأستاذ سعيد»، يومها رأيت من جديد فرحه الذي لا يبخل به على من عرفه.
«الأستاذ سعيد» سيرتدي بعد فترة قصيرة من مكوثه في مدرسة الثقافة العسكرية، لباساً عسكرياً، وبرتبة ضابط، وسينتقل من التدريس إلى منصب نائب مدير المدرسة مع المدير الإنجليزي «الميجور ادوارد»، بعدها وبوجوده غدت المدرسة زاخرة بالأنشطة المختلفة، وجلب لها مدرسين من مصر وسوريا والسودان والعراق في مختلف العلوم والفنون، فصارت لدينا مكتبة ولها نشاطاتها، وصار عندنا مسرح وعرض مسرحي سنوي، وكان يحضره الشيخ زايد والشيخ خليفة والشيخ سلطان، طيّب الله ثراهم، والشيخ محمد وكان في مقتبل العمر، وكان لدينا استعراض رياضي وموسيقي سنوي، وإذاعة وصحافة مدرسية، تغيرت المدرسة، وتعددت نشاطاتها، وكثر طلابها، وفتحت مدارس أخرى شبيهة بمدرسة الثقافة العسكرية، والتي ستسمى بمدرسة أبي عبيدة العسكرية، مثل مدرسة «بدع زايد، وغياثي، والعين ومدرسة خالد بن الوليد العسكرية»، وأصبح «الأستاذ سعيد» مديراً للمدارس العسكرية جميعها، ولعلني أذكر الآن فرحته بي ومعي زملاء قليلون يعدون على أصابع اليد الواحدة ممن أكملوا دراستهم في المدرسة العسكرية في مراحلها الثلاث، وتخرجوا من الثانوية بتقدير عال كأول فوج سيلتحق بالجامعة، وأتذكر أيضاً حين منحني مبكراً فرصة لتعلم اللغة الفرنسية، وأتذكر حتى جيداً توقيعه الذي أحتفظ به، وأتذكر دعمه ومواقفه للالتحاق بالجامعة، وأتذكر تشجيعه الدائم حين أحرز كأس الطالب المثالي، وحين كان يكافئ الطلبة المتفوقين برحلات صيفية إلى الأردن وسوريا والمغرب وتونس، والتي منها عرفت السفر، ومتعة المعرفة.
حزني شديد، وحزن طلبته أكثر، فالرجال الحقيقيون وحدهم من يتذكرهم الإنسان أبد الدهر، ويظل يشعر بذلك الدين لهم، كيف يرده، لا الشكر لهم يكفي، ولا الحب لهم يكفي، ولا تلك المودة الباقية في الصدر تجاههم تكفي، ولا حملهم على الرأس يكفي، كيف وهذا الرجل، كان معلماً ومرشداً ومشجعاً وحانياً كأب، وفرحاً لمنجزك كصديق. أتذكره الآن.. وبصدق، وكم كان أصيلاً، وكيف واساني في فقد الأب، جاءني وإخوتي صغاراً، وقال: «أنا مثل أبيك.. بل أنا أبوكم.. وكل ما تحتاجونه عندي، لا أنسى (أبو ناصر) وقفته معي في بداية عملي، وكيف ردني عن قراري بترك العمل، هي له بحق، وسأظل أتذكرها.. الله يرحمه».
لأبي طلال الرحمة والمغفرة وجزيل الثواب وعظيم الدعاء، فقد كان رجلاً نبيلاً، وعالياً، وذا فضل على الكثير، ليت العين لم تبكه، وليت الوقت يجود دوماً بمثله.

في وداع أبي طلال – بقلم ناصر الظاهري

جريدة الاتحاد