في أحضان «زحلة» – بقلم فاروق جويدة

35958733-D339-4111-905D-787C995B7BE2

في حياتنا أمنيات كثيرة لم تتحقق، ومرت طيفاً عابراً، وقد أحببت لبنان الوطن والبشر والجمال، وكثيراً ما تحدثت مع نزار قباني أنني تمنيت أن أعيش في لبنان في بداية حياتي الصحفية، وللأسف حين جاءتني الفرصة اعتذرت.

منذ سنوات ذهبنا معاً إلى لبنان، محمد عبدالوهاب الصغير ابن الموسيقار الكبير وأنا، بدعوة من مدينة زحلة أجمل ربوع لبنان، حيث كانت المدينة تحتفي بأمير الشعراء أحمد شوقي، وكان عاشقاً من عشاقها الكبار، وهناك كتب قصيدته الشهيرة «جارة الوادي» التي لحنها وغناها محمد عبدالوهاب ثم غنتها فيروز.

ذهبنا إلى زحلة، إذ كانت المناسبة إقامة تمثال في قلب المدينة للفنان محمد عبدالوهاب، بجانب تمثال أُقيم من سنوات لأمير الشعراء أحمد شوقي.. وفي احتفالية كبيرة حضرها كبار المسؤولين اللبنانيين من الحكومة والأحزاب وكبار المثقفين، تجمع أكثر من عشرة آلاف شخص، احتفالاً برفع الستار عن التمثال، ويومها ألقيت قصيدة في رثاء محمد عبدالوهاب قلت في أبياتها:

هل أودعوا العود فوق القبر يؤنسه وقبرك الآن هل يدري بمن فيه

فيه الشموخ الذي غنى لنا زمناً

عمراً من الحب لن ننسى مُغنيه

يا أيها القبر إن ماتت أنامله

اسمعه لحناً.. فإن اللحن يحييه

كانت ليلة في أحضان زحلة المدينة التي أحبها أحمد شوقي، وكتب فيها واحدة من أجمل وأبقى قصائده، وكان يقضي الصيف فيها رفقة محمد عبدالوهاب، وفي آخر زياراته شعر بالنهاية وهو يودعها، وكانت سنوات العمر قد تقدمت به، فكتب قصيدته الجميلة:

ما أنت من عمر الزمان ولا غد جمع الزمان فكان يوم لقاك

وقضينا معاً، عبدالوهاب الصغير وأنا، بضع ليالٍ في رحاب زحلة نستعيد معاً ذكريات عملاقَين في الشعر والغناء شوقي وعبدالوهاب، وكلاهما كان، وما يزال، يعيش في وجدان كل عشاق الفن الجميل.. لقد تصور البعض يوماً أن جارة الوادي قصيدة حب كتبها شوقي في امرأة أحبها، ولكن الحقيقة أن القصيدة حكاية وداع بين الشاعر والمدينة التي أحبها وخلدها في قصيدته الجميلة.. إنه لا يودع حبيبة ولكنه يودع عمراً وأياماً وذكريات شباب رحل.. كتب شوقي قصيدته في آخر أيامه في زحلة، بعد أن ودعها الوداع الأخير، والغريب في شعر شوقي أن أشعار الحب عنده قليلة، وكثيراً ما كنت أسأل عبدالوهاب، عن سبب ذلك، خاصة أن أكبر شعراء العربية المتنبي كان أيضاً مُقلّاً في قصائد الحب، وهي قضية مطروحة ولم يحسمها أحد.

صحيفة الرؤية