تشكو مدن العالم جميعها من غياب ذلك الشخص المهذب اللطيف العفيف الشريف المعين والمعاون، المتبحر في المعرفة والآداب العامة، الاجتماعي إلى حد لا يوصف، كلماته الشهد، ومحياه الفرح، وأفعاله أفعال الرجال النبلاء، غياب الـ «جنتلمان» من حياتنا المعاصرة والذي يدل على فقر النمط الاجتماعي الذي يسود المدن العصرية بالذات، بعجلتها وعجالتها المتسارعة، مع حيز كبير للأنانية والشخصنة، وشيء من شريعة الغاب، ولكن بطريقة متحضرة، بعكس المجتمعات البدائية في الأرياف والقرى، حيث تجد شخصية «الجنتلمان» موزعة على الجميع، بحيث لا يظهر لوحده لتشير عليه بالأصبع، حين تظهر صفاته، وتدل عليه أفعاله، في الريف والقرية صفات «الجنتلمان» تنطبق على شخصيات عديدة، وتصادفها في كل مكان، وفي أي زمان، ومع الجميع.
لكن المدن العصرية بالتأكيد محرومة من تلك الشخصية المحببة، والتي تعطي للحياة معنى آخر، ولوناً مهادناً، ويمكن أن نعزو غياب تلك الشخصية المتحضرة والجميلة من حياتنا في مدننا لأسباب تتعلق بالهجرة من مناطق الهامش إلى المركز، بحيث ضاقت المدن بسكان الأطراف، واحتلوا كل أمكنتها ونزعوا منها روحها، وما كانت خلقت لأجله، فلو أخذنا مدينة مثل الدار البيضاء أو القاهرة أو الجزائر أو بيروت إلى حد ما، لأنها تشفع لها اختلاف الشخصية اللبنانية وتفردها، وضيق المساحة المكانية أو أي من عواصمنا العربية العريقة، والتي شهدت نهضة عمرانية وحضارية متقدمة منذ سنوات تربو على المائتي عام، سنجدها اليوم مقارنة بصورها بالأبيض والأسود في سنواتها المنصرمة، وكيف اختلفت، وكيف اكتظت، وكيف غاب عنها الرقي، ولمسة الأناقة، وتلك اللمعة من النظافة في شوارعها في سياراتها على واجهات عماراتها ولباس ناسها، وذلك الأخضر المعتنى به في كل مكان، غابت المقاهي الحقيقية التي تؤمها العائلات والطبقات المخملية والناس المتأنقون باستمرار، والمحافظون على هدوئهم، وهدوء المكان، وخصوصية المرتادين، أدخل اليوم أي مقهى في مدينة عربية وانظر للحوارات الدائرة والضجيج والتلصص على الآخرين، والإزعاجات المتعمدة، بحيث غير بعيد أن تسمع كلمات نابية لا تريد أن تسمعها، ولا حتى يعرفها أبناؤك، انظر لملابس المرتادين وكيف هي ضد البيئة، ومخالفة للذوق العام، وبعضها مستفز، وحتى التي يعدونها رياضية تخلو من الروح الرياضية، وتصبح عدوانية، مثل ذاك الذي يلبس «شورت» وشعر رجليه مثل عشب غير مشذب، كيف لعائلة أن تستلذ بطعام غدائها ذاك النهار، وهو أمامهم شاهد وشاخص، لا يمكنك أن تستمتع بعشاء رومانسي مع زوجتك في مطعم عربي، ستجد الطاولة المجاورة تسترق النظر، «ماذا يشربون؟ ما هي تلك الأكلة التي تبدو طيبة، ونحن لم نطلبها؟ سيفصلون لكما كم من حكايات من رؤوسهم، شكلهما لن يلبثا طويلاً مع بعضهما، الزوجة تبدو حديثة نعمة، وهو غير قادر على متطلباتها الكثيرة، الله ما رزقهما بأولاد، حقيبة الزوجة تقليد، والزوج شكله بخيل»!
الحديث عن الشوارع وأخلاقياتها في المدن التي كانت عصرية، واليوم هي متأخرة عن حالها، ثمة غرابة من الحديث، وهجمة من الهمجية، والعنف اللفظي، وحضور ثقافة هجينة جلبها العاملون المهاجرون من قراهم، واستحضرها عمال المهن الدونية والكدّية وتجار الفساد والعقار وغسل الأموال والمخدرات الذين انتقلوا فجأة من وضع اجتماعي دوني إلى عليوي، ويريدون أن يقلدوا الطبقات الراقية أو يريدون أن ينتقموا منهم اجتماعياً لشعورهم بالاضطهاد سابقاً أو بتلك النظرة العلوية التي رأوها منهم، جرب أن تذهب إلى دور السينما، وستستمع فيها من حديث المرتادين أكثر من حديث وحوار الفيلم، ولا يمنع أن تشم رائحة سيجارة في الظلام أو رنين هواتف نقالة، لقد غابت ثقافة الأشياء وتحضر الأمكنة، وبالتالي غابت بيئة «الجنتلمان»، وغاب «الجنتلمان» نفسه، بل أصبح موضع تندر أن تفتح باب السيارة لامرأة أو تجعلها تدخل للمصعد أولاً أو تقدمها عليك عند صناديق الدفع في السوبر ماركت، وربما عدّوا أفعاله مشينة، ومخلّة بالآداب العامة، وتحرش!!
غياب الجنتلمان – بقلم ناصر الظاهري
جريدة الاتحاد