في القرآن الكريم: يقول الله تعالى «والشعراء، يتَّبعهم الغاوون» (الشعراء ـ الآية 224)، كلمة غواية بمثابة المؤشر السحري بسبب قوة الشعر، هي كل ما لا نستطيع مقاومته ويفرض علينا سطوته بجماله وبسحره العميق، الغواية تشلّ ما نملك من قوة مقاومة ويعوضها بسحر يضع الحواس كلها رهنها.
أعتقد جازماً أن الرواية اليوم، تمارس هذه القوة الخطيرة علينا، قوة تسحبنا نحوها وأصبحنا نتماهى معها حتى تحولت إلى وطن آخر، غير الوطن المسيج الذي عهدناه والمحكوم بمجموعة من الضوابط الدرعية، التي علينا أن ننصاع لها إذا أردنا العيش فيه اجتماعياً، لكن الإقامة في هذا الوطن البديل، وطن الرواية، المدهش الذي تحيط به الغواية من كل الجهات، ليست أمراً هيناً كما يتبدَّى للكثير من الكتاب الذين اختاروا السكن فيه.
هذا الوطن الورقي يمكن أن ينتفض ضدنا في أي لحظة من اللحظات ونصبح، بدل مواطنيه ضحاياه ورماده، نريد أن نكون سعداء فيه، هـذا حق مشروع، لكن لهذا اشتراطات مسبقة، ليست مستحيلة ولا مرهقة، لكنها ضرورية.
الانتساب إلى مواطنة الرواية هو من أجمل ما يمكن أن يحصل لكاتب، لكنه صعب كما ذكرت، الأمر هنا ليس توريثاً كما يحصل في الأوطان العادية، أنت تولد على أرض، من مسار سلالي وديني معين، تنتسب تلقائياً لهذه الأرض سواء أكنت أمياً أو عالماً، مثقفاً أو جاهلاً، مسالماً أو طاغية، غنياً أو فقيراً، الأمر تحصيل حاصل ولكن مواطنة الرواية، أو الوطن اللغوي أمر آخر شديد الصعوبة من حيث كونه بعيداً عن التوريث، وآلية الانتساب فيه ليست تلقائية ولكنها استحقاق، أي علينا أن نبذل جهوداً حقيقية لكي نصبح فيه ومنه.
في الكتابة، كما في بقية الفنون الأخرى، تساؤلات كثيرة لا تفضي دوماً إلى أجوبة مقنعة، وسحر خاص، لا ندرك مصدره بدقة إلا مع الزمن، ومع ذلك نستمر في الكتابة حتى لو لم يسمعنا الآخرون، لأنّ يقيناً ما فينا بعمق، يرفض أن يستسلم للسهولة.. هل نكتب لأننا نريد أن نعبِّر عما فينا من حرائق، وأن نوصل صوتاً نشعر بأن هناك ـ في مكان ما ـ من يهمه أمره؟ أم نكتب لأننا نريد أن نخرج من ظلمة الجماعة لنتفرَّد، ونصبح شخصية خارج دائرة العام؟ هل نكتب لأننا نملك طاقة ضافية لا نريدها أن تضيع، وندرك بالقلب والحواس العميقة أن لها مستقراً في زاوية ما قد تكون اللغة مثلاً، ونتقاسمها بالقصد أو بالصدفة، مع من يريد ذلك؟
نكتب لأننا لم نستطع مقاومة الغواية الحارقة: الرواية، ونحلم بأن نصنع بيتاً حراً، لا تدخله أجهزة الرقابة والمنع، بيت من لغة، أثاثه النور والكلمات الساحرة ودهشة الأشياء التي لا نلمسها، لكنها تهز الروح من الأعماق.
نكتب لنصل يوماً ما إلى قمم جبل الأولمب العظيم، كما فعل قبلنا بروميثيوس، لنسرق النار المقدسة ونعود بها نحو من نحب، قرائنا الذين ينتظرون منا غوايات دائمة؟
صحيفة الرؤية