فلما أُنبِئ بأنه سيُمتحَن بعد ساعة خفق قلبه وجلاً، وسعى إلى الامتحان في زاوية العميان خائفاً أشد الخوف، مضطرب النفس أشد الاضطراب، ولكنه لم يكد يدنو من الممتحِنين حتى ذهب عنه الوجل فجأة، وامتلأ قلبه حسرة وألماً، وثارت في نفسه خواطر لاذعة لم ينسَها قط؛ فقد انتظر أن يفرغ الممتحِنان من الطالب الذي كان أمامهما، وإذا هو يسمع أحد الممتحِنَين يدعوه بهذه الجملة التي وقعت من أذنه ومن قلبه أسوأ وقع: «أقبِل يا أعمى».
ولولا أن أخاه أخذ بذراعه فأنهضه في غير رفق وقاده إلى الممتحِنين في غير كلام، لما صدق أن هذه الدعوة قد سيقت إليه، فقد كان تعوّد من أهله كثيراً من الرفق به وتجنباً لذكر هذه الآفة بمحضره. وكان يُقدِّر ذلك وإن كان لم ينسَ قط آفته، ولم يُشغل قط عن ذكرها. ومع ذلك فقد جلس أمام الممتحِنَين وطُلب إليه أن يقرأ سورة الكهف، فلم يكد يمضي في الآيات الأولى منها حتى طُلب إليه أن يقرأ سورة العنكبوت، فلم يكد يمضي في الآيات الأولى منها حتى قال له أحد الممتحِنَين: «انصرف يا أعمى، فتح الله عليك».
كان الممتحِنان شيخين أزهريين لم نعرف اسميهما، أما الصبي الأعمى الذي كان يخضع للامتحان فقد أصبح أشهر من نار على علم، حتى لُقِّب بعميد الأدب العربي، وكان له دور بارز في الأدب العربي الحديث وحركة النهضة التي شهدتها مصر والعالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين؛ كان هو الدكتور طه حسين.
أما وصف لحظة امتحان الصبي الأعمى فهو منقول من كتاب «الأيام» الذي سجل فيه الدكتور طه حسين جانباً من سيرته الذاتية، قائلاً إنه حديث أملاه في بعض أوقات الفراغ ليتخلص بإملائه من بعض الهموم الثقال والخواطر التي كثيراً ما تعتري الناس بين حين وحين، وإنه لم يكتفِ بالتحدث إلى نفسه فيما بينه وبينها، وإنما تحدث إليها حديثاً مسموعاً، فأملى هذا الكلام على صاحبه في رحلة من رحلات الصيف، ثم ألقاه جانباً ونسيه أو كاد ينساه، إلى أن طلبت إليه مجلة «الهلال» طائفة من الأحاديث، وألحّت في الطلب حتى لم يجد بداً إلى إجابتها.
ولم يكن يملك الوقت الذي يتيح له أن يكتب إليها الأحاديث التي أرادتها، فعرض هذا الكلام على صديق ليقرأه ويشير عليه فيه؛ أيصلح للنشر أم لا يصلح، فقرأه الصديق وأشار عليه بألّا يلقي إليه بالاً، فاعتذر إلى «الهلال» ولكنها أبت إلا الإلحاح، فدفعه إليها على كُرهٍ منه، وقد نشرته، ثم جمعه بعض الأصدقاء في سِفْرٍ واحد. وهكذا وُجِد هذا الكتاب على غير إرادة منه لوجوده، كما يقول في المقدمة التي أملاها بنفسه لطبعة «بريل» الخاصة بالمكفوفين من كتاب «الأيام».
انتقل الصبي الأعمى من الأزهر، الذي رفض شيخه إعطاءه الشهادة العالمية، إلى الجامعة المصرية، التي أصبحت فيما بعد جامعة القاهرة، وحصل منها على شهادة الدكتوراه عام 1914م، فكان أول من يحصل على شهادة الدكتوراه من هذه الجامعة الأهلية التي أوفدته إلى فرنسا لاستكمال دراسته ليعود منها عام 1918 بشهادة الدكتوراه الثانية، إضافة إلى إنجازه دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني والنجاح فيه بدرجة الامتياز، ليترقى في الوظائف من أستاذ جامعي للتاريخ، ثم اللغة العربية، إلى عميد لكلية الآداب، إلى مدير لجامعة الإسكندرية، قبل أن يصبح وزيراً للمعارف عام 1950.
مركز أبوظبي للغة العربية اختار الدكتور طه حسين ليكون شخصيةَ العام المحورية لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب 2022م، تقديراً لإسهاماته الكبيرة والمضيئة التي رسّخها في تاريخ الثقافة العربية، إذ يحتفي المعرض بهذه القامة الأدبية المرموقة من خلال جناح خاص يسلّط الضوء على مكانة وأهمية الدكتور طه حسين، عبر سرد بصري لملامح من حياته، وبالتنسيق مع متحف طه حسين في مصر، وسلسلة من الندوات التي تناقش محاور عدة في مسيرة الدكتور طه حسين وفكره.
هذا الاختيار يعطي هذه الشخصية حقها، ويعيد تسليط الضوء عليها بعد ما يقرب من 50 عاماً على وفاتها، وخاصة في ضوء الحراك الذي أحدثه الدكتور طه حسين في الساحة الثقافية والفكرية العربية بأطروحاته غير المألوفة؛ تلك التي نتج عنها خلافات بينه وبين بعض الأدباء والمفكرين ورجال الأزهر وقتها، وما زالت تثير حتى اليوم جدلاً.
أقبل الأعمى على العلم حتى نال منه الشهادات العليا، وانصرف إلى البحث والتأليف فترك لنا عشرات الكتب في مجالات الفكر والنقد والرواية وغيرها، فحق أن يحتفى به وبإنتاجه، وأن تعاد قراءته.