فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب عن «إلى أين أيتها القصيدة؟»
يقودنا هذا الحوار مع الشاعر العراقي علي جعفر العلّاق الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب لهذا العام 2023، فرع الآداب، عن عمله «إلى أين أيتها القصيدة؟»، وهو سيرة ذاتية حول تجربته الشعرية، لتعبر الجائزة في دورتها السابعة عشرة عن تقديرها لفن السيرة الأدبية بفنياتها وواقعيتها، وممكناتها التخيلية، وخياراتها الإبداعية، التي تأتي بالذاكرة من لغة ذاتية إنسانية، لتصبح المحاورة سيرة شاعرية في حياة شاعر خبر أهوال القصيد، منصتاً للسؤال برحابة صدر، فكان لـ«البيان» معه هذا الحوار:
هذا تثمين كبير، وإذا افترضناه أحد أنواع الراحة الكبرى فإنه لا يأتي سهلاً، ولا ينال إلا على جسر من التعب، كما قال الشاعر أبو تمام قبل مئات السنين. إن عذاب الكتابة مجد دائم، وهذه ليست مفارقة بلاغية، لكنها حقيقة ذات حسية عالية، عذاب مشوب بالكثير من الجمال، أو جمال تخالطه المكابدة في أحيان كثيرة، والكاتب لا يسري في ليل من الكتابة لا نجم فيه، بل ثمة خيط من الوميض الدائم، بينه وبين المتلقي، فرداً أو جماعة، لذلك فإن فوز الشاعر مثلاً بجائزة من الجوائز هو تعبير استثنائي عن امتنان مجتمع الجائزة لهذا الشاعر، لقاء مكابدته الجميلة هذه، فكيف إذا كانت الجائزة مرموقة أو ذائعة الصيت كجائزة الشيخ زايد للكتاب. إنها امتنان للشاعر الذي يجعل الحياة أكثر جمالاً وأقل ضيقاً. ويسهم مع كل قصيدة حقيقية في إثراء اللغة، والبرهنة على سحرها،الذي لا يتلاشى أمام الزمن.
حدثنا عن كتابك الفائز، بعنوانه الاستفهامي «أيتها القصيدة إلى أين؟»
لاحظي أن العنوان اختلف الآن قليلاً عما كان عليه. هذه الاختلاف في ذكر العنوان مناسبة للإشارة إلى مزاياه التركيبية، التي رتبت عناصره بطريقة مخصوصة، لتزيد من قدرتها على بناء المعنى عن طريق التقديم والتأخير. حين نؤخر عبارة «إلى أين» إلى آخر العنوان فإننا نهز شجرة المعنى قليلاً، فتنحرف دلالته قليلاً أيضاً.
هناك ثلاثة أبعاد شديدة الحضور والترابط في عنوان السيرة: السارد والقصيدة والمكان، يتمثل البعد الأول بالكاتب أو الراوي حين يتعذب وهو يعيش، لكنه ينتشي ببهجة الإفصاح، والتماهي مع اللغة حين يسرد ويروي صيرورة الحياة كلها، أما القصيدة فهي البعد الثاني، وهي شريكتي في ابتكار الوهم أو الحقيقة، نعوم معاً في كتلة من اللهب دون حماية، ويمثل المكان ثالث أبعاد العنوان، فهو الحاضن لمتواليات السفر والتشظي ومجد الكتابة. حين نضع عبارة «إلى أين» في آخر العنوان فإننا نهدم شيئاً من تدفقه اللين الجميل، ونضعف من كثافة الحيرة المكانية في السؤال.
ماذا تقول عن ترجمة الشعر، يعدها البعض خيانة أنيقة للنص؟
قد تكون خيانة أنيقة، وخيانة لابد منها، وهذه عبارات يرددها المهتمون بشعرية الترجمة وجمالياتها كثيراً، للتعبير عن الخسائر الحتمية، التي ُتمنى بها القصيدة، وهي ترحل من لغة إلى أخرى بعيداً عن أرضها الأولى، ومهما اجتهدنا في تلطيف أوصافنا لتلك الخسائر فإن أثرها السلبي يظل واضحاً على النص الهدف، مع تفاوت بين مترجم وآخر حسب تفاوتهما في الملكات والإحساس باللغة، والتمكن من اللغتين وثقافة كل منهما.
لكنني، مع ذلك، أرى أن ترجمة القصيدة ما هي إلا قصيدة أخرى، بالمعنى الإبداعي للكلمة، هي جهد المترجم النابه، وهو يصنع من ظل الشجرة الأولى شجرة جديدة، له نصيب واضح فيها، أو هي قصيدة مترجم موهوب، خصب المخيلة، ووارف اللغة، يكتب قصيدته، وهو ممتلئ بذكرى قصيدة أخرى، قادمة من لغة ثانية، قصيدة لم يتمـاثل للشفاء تماماً من علاقته بها.
كيف تجد اليوم حركة الشعر في الخليج العربي، وفي دولة الإمارات؟
يمثل المشهد الشعري الإماراتي ركناً شديد الحيوية، من المشهد الأكبر في عالمنا العربي، والقصيدة هنا تتحرك بتوثب جمالي ودلالي، يبرهن في كل لحظة على أن مقولة المراكز والأطراف الشعرية، وهـم قد انتهى منذ زمن طويل، وتداخلت البلدان والمدن والأقاليم وصار للقصيدة انتماؤها الإنساني العريض. الكتابة الشعرية في هذا المكان لم تعد أسيرة التقسيم التقليدي، على الأنواع الشعرية، أعني النص العمودي، وقصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة، بل هي تماس حر وجريء بين كل مكنونات اللغة، وتحرر من ثقل الأعراف الشكلية التقليدية، للدخول إلى فضاء إبداعي من ثراء النثر وحرية الإيقاع والمخيلة.
ومن جهة أخرى تنهض الشاعرة الإماراتية بنصيب وافر من مغامرة القصيدة وترف اللغة، وصولاً إلى أقصى متطلبات التعبير عن النفس البشرية.
برأيك هل أصبحت سيرة الشاعر وحياته إنصاتاً ومكابدة، بين السفر في منفى اللغة، وبين ارتياد المجهول؟
هي كذلك في أحيان كثيرة، حين يعيد الشاعر بناءها من جديد، لتصبح إبداعاً، يتحرر كما تتحرر القصيدة من شرط المطابق الفجة مع نسبها الواقعي، أو انتمائها إلى سلالة الوثيقة الجامدة. سيرة الشاعر فيها الكثير من تجليات الجمالي وتفلته من ربقة الوثائقي، لكنها تظل أصيلة، وتنتمي بصدق إلى إيقاع دم الشاعر ورفيف روحه. إن إبداع الشاعر وهو يكتب سيرته لا يعني الاختلاق أو الكذب، بل الارتفاع بتلك الحياة إلى ذرى تعبيرية عامرة بجمال اللغة ونشوتها المباركة.
يقال إن القصيدة سر، وعلى القارئ إيجاد مفتاحها… ويقال أيضاً إنها غواية تفتح كل الأبواب، ما مفهومك حول هذا اللغز؟
القصيدة خلق وابتكار، ينشأ من حافز عقلي أو حسي، أرضي، أو متخيل، لكنها تبتعد، بعد أن تمر بمنظومة من الانزياحات اللغوية والدلالية لتصبح خلقاً آخر، ويترك الشاعر في نصوصه مسامات، أو ثلوماً، أو إيماءات، حياتية أو لغوية أو معرفية. وعلى القارئ أن يملأها بالمعنى، حين يجيد ربطها بالقصيدة، وحين يجيد تأويل مستوياتها البلاغية. هنا، في هذه المنطقة من النص يعثر المتلقي على ضالته. ولا يفهم من ذلك أن القراء سيعثرون على معنى واحد في انتظارهم، إلا إذا كانت قصيدة ذات مهمة تعليمية، أما القصيدة المكتملة فهي حمالة أوجه، تعبر عن موضوعها أو فكرتها بوسائل بالغة التخفي. وبذلك، يمكن لكل قارئ مرهف وذي ثقافة ومعرفة بالشعر أن يجد معناه الخاص الذي لا يتطابق، في أحيان كثيرة، مع مقصد الشاعر.
لا تنجو الحياة بلا شعر، وهو ضرورة إنسانية وإضافة تمضي مع الحب، فكيف يمضي علي جعفر العـلاق مع هذا الحب لخدمة القصيدة؟
الشعر، باعتباره سيد فنون التعبير اللغوي، سند جمالي، لا نضير له ربما، لنهوض الحياة الروحية والوجدانية للبشر، وللتعبير عن أحلام المقهورين منهم، وهو أجمل بوح ممكن عن مشاعر الحنين والتطلع إلى البعيد والقصي، والتحرر من ربقة الأرض وقيودها المكبلة لإرادة الناس.
وأنا في كتابتي للقصيدة، أقف أمام الكون لا سلاح لي غير اللغة، أحاول استفزاز أقصى طاقتها للتعبير الحر، والحي، عن الحب والجمال، وإيقاظ مخيلة المتلقي، ليتمرد على ألفة الأشياء وثقل العادة لكي ينظر إلى الكون من جديد، وكأنه يراه للمرة الأولى، جديداً صافياً، لم تطأ أقدام العابرين من قبل.
حدثنا كيف تقضي يومك كمفكر وشاعر؟ أخبرنا عن طقوسك الإبداعية؟
الشعراء أو المفكرون ليسوا نسخاً متشابهة، كما أنهم لا ينتمون إلى كواكب مبعثرة في أديم هذا الكون، غير أن هناك جوهراً مشتركاً يوحد بينهم، وأساليب متفردة في إفصاح كل واحد منهم عن ذاته.
الكتابة ليست مهنة، أو وظيفة، يمارسها الكاتب فترة من حياته، ثم يتقاعد بعد بلوغه سناً معينة، بل هي شغف، يستغرق العمر كله، لا تعتمد على الصدفة، أو اعتدال المزاج. والقصيدة بالنسبة لي قدر محتوم لا يمكنني الإفلات منه، أو تلافيه، بل هي موهبة محفوفة بالنبل والفرح تارة، وبالمشقة والسهر تارة أخرى. كما أن الشاعر لا يخرج من عجزه إلا باللغة، ولا يتخطى محدوديته إلا بالشعر.
وبذلك فإن القصيدة كتابة وقراءة وتحليلاً، تستهلك أيامي كلها. وتمنحني الإحساس بأن الحياة خلقٌ وابتكارٌ وهي توهم جميل أيضاً، وعن طريقها نحس بالاكتمال ونكتسب قدرتنا على الإبانة والإفصاح. وبدون الشعر، أو الإبداع عموماً، نشعر بأن آدميتنا منقوصة ومعرضة للمضايقة دائماً. لي صداقاتٌ منتقاة وقليلة، إلى حد كبير، لكنها ثمينة وخالية من الدغش، كما أنني إنسان لا يجد هناءته إلا في عائلة متناغمة.
علي جعفر العـلاق: مجد الكتابة عذاب دائم وجمـال تخـالطه المكـابدة
جريدة البيان