طعم نار ودخان – بقلم علي عبيد الهاملي

علي-عبيد-الهاملي-1

قبل 26 عاماً غنت فيروز «لبيروت.. من قلبي سلام لبيروت». يومها لم يكن أحد يعرف المخبوء لبيروت. يومها لم نعرف لماذا تساءل الشاعر جوزيف حرب في قصيدته تلك: «فكيف صار طعمها طعم نار ودخان؟». عن أي نار ودخان كان يتكلم الشاعر القادم من جنوب لبنان؟ لماذا قال: «أطفأت مدينتي قنديلها.. أغلقت بابها.. أصبحت في المساء وحدها.. وحدها وليل»؟

عام 2014 ترجل جوزيف حرب ورحل عن الحياة قبل أن يرى بيروت تحترق. تُرى ماذا كان سيقول لو كان حيًّا.. هل كان سيتمنى لو أنه لم يقل قصيدته تلك كي لا تصير نبوءة؟ هل تمنت «جارة الوادي» لو أنها لم تَشْدُ بها؟

كانت ليلة بطعم النار والدخان فعلاً، تلك التي بكت فيها شاشات هواتفنا وهي تتلقى مشاهد ذلك الانفجار المروع الذي هز مرفأ بيروت. لم يكن مرفأ بيروت هو الذي اهتز وحده، فقد اهتزت معه قلوب اللبنانيين والعرب وسكان الكرة الأرضية كلها.

عدنا إلى أرشيف الفيديوهات المخزنة في «يوتيوب» نبحث عن شبيه لانفجار مرفأ بيروت. لم نجد له شبيهاً سوى القنبلة الذرية التي ألقيت على هيروشيما في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945. هل كان من باب الصدفة أن يكون انفجار قنبلة هيروشيما يوم السادس من أغسطس، وأن يحدث انفجار مرفأ بيروت يوم الرابع من أغسطس بفارق 75 عاماً؟

كان منظراً مفزعاً، بل كانت مناظر مفزعة تلك التي نقلتها لنا كاميرات المراقبة والهواتف النقالة التي كانت مفتوحة في تلك اللحظة. أطفال احتار آباؤهم وأمهاتهم ومربياتهم أين يذهبون بهم والزجاج يتطاير من كل ناحية متكسراً مقذوفاً في كل الاتجاهات.

«لبنان حرام.. حرام يصير فيه هيك» هكذا قالت عروس بيروت التي حدث الانفجار وهي تلتقط الصور التذكارية مرتدية فستان عرسها في طريقها إلى حفل زفافها.

تناثرت الورود التي كانت تحملها في الشارع. اختلطت بشظايا الزجاج المتكسر ومقذوفات أحجار البنايات التي تناثرت حولها. ألغت العروس التي أفسد الانفجار طقس تصويرها بفستان العرس الأبيض.

ولكنها عادت إلى موقع الحادث في اليوم التالي مع زوجها. التقطا صوراً تذكارية على أنقاض الحجارة التي تسبب فيها الانفجار بملابسهما العادية، وذهبا ممسكين بإرادة الحياة رغم ما حدث. «مجدٌ من رمادٍ لبيروت.. من دمٍ لولدٍ حُملَ فوق يدها» هكذا كتب جوزيف حرب قبل 26 عاماً، وغنت فيروز بصوتها الملائكي العميق.

الغضب تفجر للمرة الألف في بيروت. لبنان كله يغلي منذ شهور مثل مرجل فوق فوهة بركان. ما الجديد هذه المرة إذن؟ الجديد هذه المرة أن مرفأ بيروت أعلن هو الآخر ثورته على الصمت والفساد والتراخي.

هل كان يجب أن تذهب كل هذه الأرواح، ويحل كل هذا الدمار ببيروت، كي يصل إلى لبنان رئيس الدولة التي كانت ذات يوم تستعمره؟! تفقد الرئيس الفرنسي موقع الانفجار، وتجول في شوارع بيروت المحطمة، والتقى المواطنين اللبنانيين.

كسر ماكرون التدابير الوقائية الخاصة بـ«كورونا» فتخلى عن الكمامة وعمد إلى مصافحة بعض المواطنين ومعانقتهم. قال له أحد الذين احتشدوا حوله: «سيادة الرئيس.. أنت في شارع الجنرال غورو، وقد حررناه من العثمانيين.

حررنا أنت من السلطات الحالية»! قال لهم إن لبنان «بحاجة إلى تغيير وإلى عقد سياسي جديد». أكد أنه سيطلق «مبادرة سياسية جديدة تقوم على إصلاحات وتغيير النظام ووقف الانقسامات». نزل الرئيس الفرنسي إلى شوارع لبنان، ولم يجرؤ المسؤولون اللبنانيون على النزول، واختفوا خلف الأسوار.

لماذا لا يثق اللبنانيون بحكومتهم؟ لماذا طالب المواطنون الذين استوقفوا ماكرون خلال جولته الميدانية في بيروت، بعدم تسليم أي مساعدة للحكومة؟ لماذا أكد ماكرون أن المساعدات الفرنسية والدولية ستدار بطريقة شفافة وواضحة لتصل إلى الناس والمنظمات غير الحكومية، وإلى الطواقم الميدانية مباشرة؟

أليست هذه صفعة أخرى على وجه الحكومة الذي لم يعد فيه مكان للصفعات؟ أين ذهبت حمرة الخجل من الوجوه التي ما زالت تطالع اللبنانيين عبر وسائل الإعلام متباكية على الجثث التي ما زالت تنتشل من بين الأنقاض، وتَعِدُ بالمنّ والسلوى؟

بيروت، التي صار طعمها طعم نار ودخان، ستنهض من جديد مثل طائر الفينيق.
جريدة البيان