خلال زيارته إلى مدينة لندن عام 1903 رسم الفنان الانطباعي «كلود مونيه» 3 لوحات لكنيسة «ويستمنستر» في أوقات مختلفة من نهار لندني كثيف الضباب.
وعندما شاهد سكان المدينة تلك اللوحات اندهشوا من لون الضباب فيها، فقد جاء بتدرجات من اللون القرمزي الذي لم يألفوه، لكن مونيه رآه هكذا بوضوح شديد.. فأهالي لندن لديهم معرفة مدرسية بلون الضباب تقول لهم: «إن لونه مائل للرصاصي أو الرمادي»، واستقر ذلك في لاوعيهم.
وفي مسلسل «العرش»، الذي تعرضه شبكة «نتفليكس»، شاهدنا كيف أن الظلام داهم سماء لندن بسبب ظاهرة الضباب المصحوب بدخان المصانع، وأن اللون الرصاصي الغامق المصحوب بالأزرق المعتم حوّل نهارها إلى ليل، وهذا الليل هو الذي رأى مونيه بدايته قبل 60 سنة.
في بداية القرن العشرين، وعند زيارته، كانت الثورة الصناعية تجني ثمارها المادية، ولم يتقدم الدخان كخطر على الحياة، وكانت لندن بحاجة إلى عين فنان عظيم مثل مونيه ليقول لأهلها: «إن ضبابكم ليس كما تعرفونه.. اخرجوا إلى الشوارع، وتأملوا لونه بهدوء».
لقد استيقظ الفنان الفرنسي في أحد الصباحات المشمسة، وشعر بالرعب، لأنه لم يشاهد ضباب المدينة من نافذته، فكتب يقول: «كنت يائساً تماماً، حتى بدأت المصانع بالعمل ليختلط دخانها رويداً بهواء المدينة»
لوحات مونيه تكشف لنا عجز الإنسان في مراقبة، حتى الهواء الذي يتنفسه، وأن معرفته المدرسية بنوع حياته هي التي تهيمن على وعيه.. فكم من الأشياء تتلون من حولنا ولكننا نصر على رسم الأنهار باللون الأزرق، ونرسم الغيوم باللون الأبيض الثلجي، ونصرُّ على أن العشب أخضر بدرجة نقية مع أنه في الواقع يختلط بالغبار والدخان وتتغير درجته مع درجة سطوع الشمس.
الحياة تتحرك حولنا، وهي لا تعترف بالعبارات التي قرأناها في الصغر، والطبيعة ليست مادة ساكنة لكي توصف بدقة ولمرة واحدة.. نحتاج كل يوم أن نخرج إلى الهواء ونراقب الحياة التي نعيش فيها، وأن نتأمل نجوم السماء في الليل لكي نعود إلى دهشتنا القديمة.
نحتاج إلى استعارة عيون كلود مونيه لكي نميز الألوان بوضوح، فنهاراتنا ليست متشابهة، وليست هي على حالها منذ طفولتنا.. إن للطبيعة سيمفونيتها الخاصة، وعلينا أن نسمعها بهدوء، بعيداً عن كل هذا الضجيج.
صحيفة الرؤية