كثيرون هم الأدباء والكتّاب الذين حين يعيدون قراءة ما نشروه من كُتب، ليس فقط في مطالع عهدهم بالكتابة، وإنما في مراحل تالية ايضاً، ينتابهم الشعور بأنها كان يمكن أن تكتب بصورة أفضل.
يبقى السؤال عما إذا كان هذا الشعور ناجماً عن ما بلغوه من نضج ومراس في تجربتهم الكتابية والإبداعية، حيث تطورت مهاراتهم وتمكّنهم من أدوات الكتابة، أم أنه يعبر عن إحساس بأن تلك الكتب كان يمكن أن تكتب، حتى في حينه، بصورة أفضل من قبلهم، لو أنهم أبدوا صبراً ومثابرة أكبر.
في الفترة التي عكف فيها جابرييل ماركيز على كتابة روايته «خريف البطريرك» كان يدّون، في الآن نفسه، على كراس حبكات قصص أو حتى قصصاً كاملة، وبعد حين بحث عن هذا الكراس فلم يجده، وهو أمر شائع لدى الكتاب الذين يتنقلون في العيش من بلد إلى آخر.
بعد سنوات وكان ماركيز يرتب أوراقه لينقلها معه من المكسيك إلى كولومبيا وجد، على ما قال، «شذرات فالتة على قصاصات تحمل بعض حبكات تلك القصص أو أفكارها»، ليجد نفسه منهمكاً على إعادة كتابتها، وعندها لاحظ أنها بكتابتها، بعد مرور الزمن، حملت أكثر مما كانت ستحمله لو أنه أنجزها ونشرها يومذاك، بل إن ذلك يسّر له أن يضع تلك القصص «في أجواء هي مزيج من الماضي والحاضر».
قد لا يدهشنا هذا القول لماركيز، فكتاب آخرون قد لا يكونون بموهبته يفعلون الشيء نفسه حين يعودون إلى مسودات كتب وضعوها سابقاً، ويعيدون الشغل عليها، فتظهر في صورة أنضج وأكثر تماسكاً مما كانت ستكون عليه لو أنجزوها وقت أن خطرت في أذهانهم أول مرة.
لكن ماركيز يدهش قراءه في أشياء اخرى. في الحوار الذي استقينا منه المعلومة أعلاه في كتابٍ أعدّه عصام محفوظ،، ثمة سؤال عن سرّ الشخص دائم الاندهاش في رواياته، وأن البعض يقول إن هذا الشخص هو ماركيز نفسه، «فمن أين لك هذه القدرة الدائمة على الاندهاش»؟ سأله المحاور.
جواب ماركيز أتى سريعاً دون تلكؤ أو تردد: «هذا تأثير الصحافة. الصحافة حكاية تدهش، والقصة ليست مهمة ما لم تثر الدهشة. يجب أن يكون الحدث غير عادي لتتناوله الصحافة، ويتطلب ذلك أن ينفعل الراوي به ثم ينقل انفعاله إلى القارئ».
ظلّ ماركيز وفياً لصفته الصحفية. لم يتعال عليها أبداً، وأوشك أن يقول إن الدهشة التي علمته اياها هي دافعه للكتابة، وإنه من دونها لا يستطيع أن يكتب.
جريدة الخليج