كنت طفلاً في التاسعة من عمري حين عدت إلى المنزل، وأخبرت أمي بـأن الكوليرا تسير في الشوارع وأن «مشفى الحميات» في عين التل القريب من منزلنا في حي الهلك في حلب، يغص بالجثث التي ستحرقها البلدية. كأني كنت أخبرها عن فوز فريق «الأهلي»، قبل أن يغيروا اسمه إلى «الاتحاد»، على «العربي» الذي أصبح اسمه «الحرية».
أمسكت بي وحققت معي عن مصدر معلوماتي. أشرت إليها ساخراً: «تستطيعين الذهاب إلى مشفى الحميات، وسترين هناك بأم عينيك الكوليرا وهي تتجول في ممرات مشفى العتيق»، المنفي إلى خارج المدينة قريباً من محالج القطن وأحياء الفلاحين القادمين الجدد إلى المدينة. كانت عائلتي قد سبقتهم بسنوات قليلة، مما منحها ميزة تقديم الاستشارة لمن يرغب من الأقرباء الجدد بالانتقال والاستقرار في حلب المدينة.
قبل أيام قليلة منذاك، بدأت جائحة الكوليرا السنوية، وكان «مشفى الحميات» قريباً من مدرستنا «المنصور»، التي تقع على الخط الفاصل بين منطقتي «الميدان» التي تقطنها الطبقة الوسطى من الأرمن و«الهلك التحتاني» و«الهلك الفوقاني»، الحي الشعبي العريق الذي كان مهد اليسار السوري في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات. ساعده، خليط سكانه المؤلف من فلاحين مهاجرين إلى المدينة، وأرمن فقراء، وتركمان تحولوا جميعهم إلى صانعي أحذية، وأكراد، إضافة إلى التصاقه بمنطقة «عين التل» التي تضم أغلب محالج القطن التي احتضنت الأفكار اليسارية والمنتمين إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، خاصة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين».
أمي، لا تملك كما كل الأمهات، طريقة للحماية من الوباء الذي يتبختر في الشوارع، سوى نقعنا في المياه الساخنة، وفرك جلودنا بالصابون لطرد الوباء من جلودنا، بالإضافة إلى التعاويذ التي لا تتوقف أمي عن ترديدها بشكل دائم.
أثناء التحقيق، ما زلت أذكر الذعر في عيني أمي، حين أخبرتها ببساطة بأني ورفاقي تسلقنا سياج المشفى، ورأينا بأم أعيننا الكوليرا وهي تدخل أجسام المرضى وتقتلهم، ثم تأتي البلدية وتحرق الجثامين.
– 2 –
كانت الكوليرا زائراً سنوياً، يحصد عشرات آلاف الأرواح، ويمضي كقاتل محترف لا يمكن إيقافه. لم أعد أذكر متى توقف هذا الشبح عن التجول في الشوارع. أعتقد في نهايات السبعينيات. ذكرياته المرعبة ما زالت تقض مضاجعنا، وتعود من جديد مع أي وباء جديد، لكن في الأيام الماضية شعرت بأن الوباء الجديد سيقودنا حتماً إلى نهاية العالم، لم أكن أتجرأ على التفكير أو التخيل بأنه من الممكن للعالم كله أن يغلق أبوابه وتعود الأنهار تجري بجنونها المعتاد كما يريد لها الزمن والرياح، وتبني العصافير أعشاشها في أي مكان تختاره.
فكرت بإمكانية عودة الأنواع المنقرضة من الحيوانات إلى الظهور، تخيلت كيف ستتجول في شارع أكسفورد اللندني، الزرافة البيضاء التي قتل صياد محترف آخر فردين من سلالتها قبل أيام قليلة في بلد أفريقي على ما أذكر. أتخيل بأن تلك الأنواع المنقرضة قد بعثت من جديد وأصبحت تقاسمنا الطرقات والمنازل الضيقة والبارات. تعجبني صورة أن أتناول كأس كونياك مع فيل صغير مكوم على كرسي في بار يذرف دمعاً كما نفعل نحن العشاق الخاسرون.
لكن ماذا لو لم تقبل هذه الحيوانات مقاسمتنا الحياة وقررت الانتقام منا على ما فعلناه في أمها الأرض، وقررت طردنا بشكل نهائي وإعادة إنتاج سلالات جديدة من بشر مختلفين أقل قسوة مع الأرض وأكثر رحمة فيما بينهم.
رغم أنني لم أكن يوماً من هواة الحفاظ على البيئة، فإنني أشعر بنفسي مشدوداً إليهم لأبعد الخوف عن حياتي التي أشعر بأنها مهددة فعلاً خاصة أن الفيروس العظيم المبجل «كورونا»، لم يحسم خياره معنا نحن الذين غادرنا الشباب ولم نصل بعد إلى الشيخوخة أو أرذل العمر.
– 3 –
أثناء كتابتي لروايتي الأخيرة «لم يصل عليهم أحد»، قرأت في سنوات البحث وكتابتها الأحد عشرة سنة أغلب كتب تاريخ حلب، وكانت النتيجة بأنه لم يمر على حلب عقد كامل دون وباء قاتل. أخطر هذه الأوبئة كان «الطاعون» الذي أهلك البلاد والعباد، وكما يقول الحلبيون «فوق الموتة عصة القبر»، أي إضافة إلى الظروف السيئة التي تصاحب معيشة الناس، تأتي الأوبئة. لكن في حلب كان ذلك المثل يطبق في أوقات مختلفة، في زلزال 1822 الشهير، انتشر «الطاعون» بشكل رهيب في المدينة. كان ضربة قاصمة لظهر المدينة التي لم تستطع النهوض ومحو آثار هذه الكارثة قبل خمسين سنة. دمر ثلثي المدينة ومات أكثر من خمس وعشرين ألف شخص، أي ربع أو ثلث سكان المدينة تقريباً. وأي قراءة لتاريخ حلب، قد تعني بشكل أو بآخر قراءة لتاريخ الأوبئة. يتحدث التاجر الحلبي يوسف جرجس الخوري في يومياته عن حلب في كتاب «حوادث حلب اليومية 1771 – 1805»، الذي طبع منذ سنوات قليلة كاشفاً اللثام عن تاريخ مخفي لمدينته العريقة، عن «الطاعون» الذي ضرب المدينة عام 1787، ويصف المشاهد المروعة ويعدد أسماء بعض الضحايا.
لم أجد في روايتي صورة عن قسوة الأوبئة أفضل من صورة المدينة الفارغة حين يصلها حنا ورفيقه زكريا. إنها الصورة التي شكلت لي فتنة قاتلة، ولم تزل في طفولتي حين كنا محبوسين بأمر أمي، نرى العالم من وراء شقوق الباب، والكوليرا تتجول في الشوارع وتحصد ضحاياها، بينما رائحة الجثث المحترقة تفوح في فضاء المدينة والمآذن التي تبتهل برد البلاء، تعلن عجزها بدموع حارقة.
– 4 –
ما زلت أعتقد بأننا كبشر اليوم وفي كل مكان رهائن لدى الشركات الكبرى. رحبنا بنمط حياتنا في غفلة عنا، أو فرض علينا دون إذن منا. لم يسألنا أحد إن كنا نريد أن نتوقف عند «مرحلة الفاكس» أم نعبر إلى «مرحلة النت». نستطيع تعداد كل ما يحيط بنا من إنجازات تفتخر البشرية بها دون أن تسأل نفسها عن الأثمان الواجب دفعها، بالإضافة إلى أن الصورة نفسها ما زالت ثابتة، قدوم الوباء يرتبط بالندم، في وقت لا ينفع فيه الندم. وهم بأن الحياة قبل مائة سنة كانت أكثر رحمة ليس صحيحاً، الحياة دوماً كانت تمرين على القسوة المستمرة. ما نتحدث عنه، بأن الحياة المعاصرة هي نهش للذات، وابتعادنا عن السعادة باقترابنا من نمط الحياة المعاصرة القائمة على تملك الأشياء أيضاً وهم. لم تتوقف الحياة عن كونها امتحاناً مؤقتاً لا يجوز محاكمتها بمعزل عن إخفاء الحقائق عن العامة من قبل السياسيين ومجموعات البحث العلمي التي أعتقد وصلت إلى أعلى مراحل التطور. ولدي يقين كامل، بأنها قادرة على إعادة إنتاج الحياة أو إيقاف الموت. لكنها في هذه اللحظة الرهيبة تقف عاجزة أمام هذا الفيروس الذي أغلق العالم، حقيقة وليس مجازاً. نفس السياسة في إخفاء الأسرار، ما زالت سائدة ولن نجد جواباً قريباً عن سؤال: من أين أتى هذا الفيروس، كما لم نجد حتى الآن جواباً لسؤال: من أين أتى «داعش»؟ ولماذا؟ ومن سيدفع التعويض لعشرات الآلاف من ضحاياها.
مع كل وباء يصبح البشر جيفة يجب الابتعاد حتى عن جثامينها، وصور الجنازات في العالم تخبرنا ببساطة بأن الموت قد يكون فعلاً عملاً شاقاً، والعالم يقتسم مع سوريا هذه المشقة رغم اختلاف الزوايا.
– 5 –
هنا والآن. السوريون مرة أخرى ينتظرون الموت العشوائي في حلته الجديدة، وأنا واحد منهم. لقد اختبرنا كشعب كل أنواع الموت. تحت التعذيب مات عشرات الآلاف من خيرة شباب سوريا. تحت القصف، دمرت مدن سوريا. في الحرب، التي لم تنته، مات أكثر من نصف مليون سوري، عدا عن التهجير وملايين النازحين.
اليوم، يتبختر وباء «كورونا» بنسخته الجديدة، وجميعنا في سوريا ننتظره دون حول أو قوة، أو يقين، بأننا نستطيع مجابهته. في أعماقنا جميعاً، نعرف بأننا شعب فائض عن حاجة النظام الذي يستطيع العيش والاستمرار بربع عدد السكان فيما لو مات ثلاثة أرباع السكان. لن يسأل أحد لماذا لا توجد «منافس» للأكسجين كافية في مشافي سوريا، لماذا المنظومة الطبية شبه غائبة. وفي حالة فريدة، لا يوجد أحد يتلقى السؤال ويتحمل المسؤولية، لأنه في أعماق السوريين ينمو يقين غريب بأن من عبر الحرب هو ناجٍ من كل بد، ومن غرق في البحر لن يغص بالساقية. لكن من يدري، قد تتحول الساقية إلى طوفان رهيب يجرفنا جميعاً إلى الهاوية والمحرقة التي تجعل منا رماداً.
جريدة الشرق الأوسط