يخيم الليل، يمتد الظلام الداكن شديد الظلمة ولا تزين هذه المساحة السوداء غير النجوم تلمع وتضيء السماء، نجم في الأفق البعيد يضيء أكثر من سائر النجوم ونجمات الثريا وحدها أكثر وضوحاً وتكاد تعد تلك النجمات التي تكوّن مستطيلاً من النجوم الصغيرة.
يقطع البوم الخشبي المسافة بهدوء تام، وحدها ماكينة/ محرك الديزل تهدر بأصوات عالية، تدفع (البوم) في ليل حالك السواد إلى المدينة التي تسكن على حافة بحر الخليج العربي، عندما انتصف الليل وسكن الركاب والبحارة في أماكنهم ومواقع استراحتهم، نامت الحركة على سطح السفينة الخشبية (البوم)، كسر هذا الصمت الكبير والذي لا تسمع فيه غير هدير محرك الديزل الذي اعتاده الركاب والبحارة.
مثير البحر بصمته وهدوئه، وجميل اندفاع (البوم) بعزم وبثبات في السرعة والمسير.
نام الجميع، وحده الذي يمسك بالدفة ظل ممسكاً بالمقود ونظره لا يفارق (الديرة) البوصلة التي يحرس تأرجحها ثم يعدل مسار السفينة.
المصباح الذي تعلق في مؤخرة (البوم) على عارض خشبي يعلو بأمتار عن سطح البوم يتأرجح أيضاً كلما رفعت الأمواج السفينة وكأن نجمة حطت فوق هذا الراحل في بحر الظلام، إنها الحارس الأمين من خطر السفن العابرة.
كسر الصمت الذي نزل على السفينة المبحرة بعزم إلى المدينة البعيدة أحد الركاب الذي ظل يعبث في جهاز الراديو الصغير والقديم جداً والذي يدير مؤشره باحثاً عن محطة إذاعية ولكنه احتاج إلى مدة حتى يصل إلى صوت يمكن سماعه بوضوح، كثرت المحطات الإذاعية التي ترسل وشوشات ولا تسمع منها غير أصوات بعيدة ومتقطعة وحدها الوشوشات والصفير يأتي مزعجاً يسرع تحريك أداة المؤشر.
فجأة يتوقف عند محطة غنائية رائعة، يرفع صوت المذياع بلا مبالاة بأن الصوت يسري في الليل الصامت والبحر الواسع وكأن الأغنية تحكي عن رحلته البحرية والمدينة التي يتشوق للوصول إليها سريعاً بعد هجر وغياب.
(على شط بحر الهوى، رسيت مراكبنا، والشوق جمعنا سوى أحنا وحبايبنا) للمرة الأولى يستمع إلى هذه الأغنية الجميلة، جأت من بعيد وسكن الفرح قلبه المتعب الذي ربما وصل إلى المدينة قبل أن تصل السفينة.
بعدها أقفل مذياعه ولم يعد يسمع غير أصوات وهدير ماكينة الديزل التي تدفع السفينة بعزم إلى ميناء المدينة البعيدة، نام الجميع واستيقظوا عندما أحسوا بمناورة (البوم) عند الاقتراب من المدينة، أضواء المدينة وأنوارها تضيء كل مكان، ألوان من الأنوار الكاشفة والقوية تحيط بالميناء وتحول الليل إلى نهار يعبر البوم بسلاسة حتى المرسى، يتقافز البحارة يسحبون الحبال التي تشد السفينة إلى الرصيف ويتم توثيق رباط جوانبه على حافة المرسى.
ينزل الركاب العابرون إلى المدينة كل حاملاً أغراضه الشخصية وحدهم بحارة السفينة آخر الراحلين بعد أن أتموا المهام والعمل الذي تحتاجه إليه نهاية الرحلة.
ذلك العابر الذي لم ينم طوال الليل وظل في سهاد وسهر يدير مؤشر راديو ترانسيستر الصغير، كان أول من غادر السفينة، أسرع الخطى ولوح للبوم مودعاً فرحاً، لم يبالي بليلته التي أمضاها من دون نوم على ظهر السفينة ولم يهتم بأصوات وضجيج أو هدير ماكينة الديزل كان في عالمه الخاص والذي زاده اشتعالاً صوت ذلك المغني والموسيقى الجميلة، ردد مقطع أحبه (على شط بحر الهوى رسيت مراكبنا).
مد الخطوات سريعاً ثم غاب في المدينة.
سواحل – إبراهيم مبارك
جريدة الاتحاد