كاتب بريطاني، اسمه موريس بارنج، قصد روسيا في نهاية القرن التاسع عشر، لفته إعجاب الروس بأديبهم فيودور ديستوفسكي، ونظيره في المكانة والأهمية ليو تولستوي، وقد تتفاوت الآراء بينهم في أيهما أقرب إلى نفوس القراء وأكثر تعبيراً عن روح روسيا، لكنهم لا يختلفون على أن الاثنين كاتبان عظيمان.
بعد مرور أشهر على تلك الزيارة يقرأ الرجل مقالاً حول ديستوفسكي، في إحدى المجلات الأسبوعية الأدبية في إنجلترا، وصف كاتبها ديستوفسكي بأنه «مجرد كاتب مسلٍ ومخترع ميلودراما»، وقد هال الرجل هذا التباين الكبير بين ما سمعه في روسيا عن ديستوفسكي، وما قاله هذا الكاتب الإنجليزي، مع أن موريس بارنج عزا الأمر إلى جهل الإنجليز بأدب ديستوفسكي، فلم تكن مؤلفاته قد ترجمت بعد إلى لغتهم، ولا يكادون يعرفون منها سوى روايته «الجريمة والعقاب»، لذلك وصف مقالة ذلك الناقد بعدم العمق.
ليت هذا الناقد ما زال على قيد الحياة اليوم، ويقرأ أن منظمة «اليونيسكو»، المعنية بالشأن الثقافي والفني في العالم، قد قررت اعتبار هذا العام (2021) عاماً عالمياً لديستوفسكي، بمناسبة حلول المئوية الثانية لميلاد الكاتب، مبرهنة على أن الرجل ليس مجرد كاتب روسي، وإنما هو كاتب عالمي، وعليه وأدبه ينطبق القول إنه بمقدار ما يغوص الكاتب في تفاصيل بيئته، يتجاوز محليته ليغدو معبراً عن النفس الإنسانية في كل مكان، التي تتنازعها ذات الهواجس والذكريات والإحباطات والآلام والآمال.
سيرة ديستوفسكي نفسها كانت خير مثال على ما في النفس الإنسانية من خبايا، هو الذي عانى العوز ومرض الصرع، الذي ألهمه في بناء شخصياته والغوص في أعماقها، رغم أن نقاداً فنّدوا فكرة «الطبيعة اللاواعية الشبيهة بالسير أثناء النوم لإبداعه»، فهو كان من أكثر الكتاب انضباطاً، يحرص على بناء حبكة رواياته بأقصى العناية، لكن هناك اتفاقاً على أثر إدمانه القمار على شخصه وأدبه، الذي تجلى في روايته الشهيرة «المقامر»، التي نظر إليها الدارسون لأدبه بوصفها وداعاً لحبيبته سوسلوفا التي هجرته، كما كانت محاولة منه لتصفية حسابه مع ولعه بالقمار، وهو ما أفلح فيه.
إذا كانت «اليونيسكو» بإطلاقها السنة العالمية لديستوفسكي، تدرك أنه مازال معاصرنا، فإن وطنه، روسيا، أكثر حاجة من سواها للعودة إلى تراثها الأدبي والإبداعي الثري، الذي يعدّ ديستوفسكي من أهم وأعمق وأثرى علاماته، ولعل هذا ما ألمح إليه كارياكين في كتابه عنه، فأدب عظيم مثل أدبه لا يساعدنا في تفسير أو فهم ما حولنا فحسب، وإنما على تغييره أيضاً.
جريدة الخليج