لم يستغرق وضع فكرة نصب الجندي المجهول من رفعة الجادرجي سوى دقائق، عشر أو عشرين، قبل أن يعطيه للرسامين ويجد طريقه نحو البناء، ليغدو واحداً من أجمل معالم مدينة بغداد.
ليس نصب الجندي المجهول وحده ما كان هدفاً للجهلة والظُّلام (بضم الظاء). صاحبه هو الآخر اقتيد إلى السجن ومكث فيه عشرين شهراً، نزيل زنزانة طولها متران وعرضها متر ونصف المتر معتمة، لا يسمح للمعتقلين فيها بالتعرض لأشعة الشمس إلا مرة واحدة كل عشرة أيام. كان سبب الاعتقال في غاية التفاهة، هو علاقة الجادرجي مع شركة مقاولات إنجليزية تعمل في المجال المعماري والهندسي، في زمن كان التعامل فيه مع الأجانب محظوراً بالمطلق.
كان يمكن لرفعة الجادرجي أن يقضي في زنزانته عقوبة السجن المؤبد، لولا أن بغداد كانت على وشك أن تستضيف قمة عدم الانحياز، وكان ملحاً إنجاز مشاريع معمارية ضرورية لاستقبال رؤساء الدول القادمين للقمة. يومها سأل صدّام حسين عن أسماء أبرز المهندسين المعماريين العراقيين ليتولوا المهة، فأجابوه: إنهما اثنان، واحد في السجن هو رفعة، والثاني خارج العراق هو محمد مكية، فأمر صدام: «اللي بره نجيبو. واللي جوه نطلعو». وهكذا كان. استدعي مكية من الخارج وأطلق سراح الجادرجي.
ليس نصب الجندي المجهول وحده بصمة للجادرجي. هل يمكننا تخيّل بغداد اليوم دون جدارية جواد سليم. ولتلك حكاية رواها رفعة نفسه. المكان والزمان كانا بغداد في نهاية 1958، بعيد الإطاحة بالملكية. كانت الشوارع مليئة بالتظاهرات التي لا تهدأ رافعة اليافطات التي وصفها بـ«القبيحة»، فأراد أن يصمم نصباً أنيقاً طوله خمسون متراً، أي ما يتسع لخمسين يافطة من تلك التي كان المتظاهرون يرفعونها. تولى جواد سليم فيما بعد وضع منحوتاته البديعة عليها، لتبقى شاهدة على الزمن، على العراق يوم كان عراقاً آخر غير الذي آل إليه.
في حوار مع الكاتبة إنعام كجه جي قال الجادرجي إن أمين العاصمة في أوائل الثمانينات أبلغه ذات يوم أن أمراً جاء من القصر، بهدم الجندي المجهول، وقال له بأنه سيماطل في تنفيذ الأمر إلى أن تُنسى القضية. وبعد حين لم يطل، أي في أواخر 1982، جاءه الرجل واجماً ليبلغه أن الجندي المجهول قد جرى هدمه، ومكانه، في ساحة الفردوس، أقيم تمثال لصدّام حسين شخصياً، هو الذي أزيل في العام 2003.
يومها كتب شاعر عراقي لا يحضرني اسمه يقول: «حسبالك رحتْ نرتاح حسبالك/ دول الصفقوا من نصبوا التمثال/ ردّوا صفقوا من طاح تمثالك».
جريدة الخليج