مضى أكثر من ثلاثة عقود ونيف على رحيل المغفور له بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، مؤسس دبي الحديثة، الذي رحل في 7 أكتوبر 1990، ومع ذلك، لا تزال فلسفته الاقتصادية في تحويل دبي إلى قبلة عالمية للمال والأعمال، تتبلور وتتطور، وتبرز ملامحها بوضوح، يوماً بعد يوم. آمن راشد بأن الاقتصاد هو المحرك الرئيس لحركة التنمية، وأنه من دون الاقتصاد لن تقوم للمدينة قائمة. وبهذا الفكر السابق لأوانه، استطاع راشد تطوير عدة مشاريع اقتصادية كبرى، حولت دبي إلى وجهة عالمية للمال والاقتصاد. ليس هذا فحسب، بل اهتم راشد بالمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، كونها تشجع توظيف رؤوس الأموال المحلية.
سؤال يتردد في ذهن الكثيرين، وهم يراقبون تطور دبي: كيف لراشد الإنسان البسيط، أن يحلم ويترجم لأرض الواقع كل هذه المشاريع الاقتصادية الكبيرة الناجحة؟ من هم مستشارو الشيخ راشد؟ ما أهم القطاعات التي استحوذت على اهتمام راشد؟ هذه الأسئلة وغيرها، تدور في ذهن المراقب لحركة التطور في تلك الفترة، وأحياناً كثيرة قد لا يجد لها إجابات شافية.
فراشد ليس بالقائد العادي الذي تربع على كرسي الحكم، وأحاط نفسه بمستشارين، بل كان يمتلك فكر رجل الأعمال، الذي يريد كل يوم أن تصبح إمارته أفضل، من خلال الإشراف الشخصي المباشر على كل مشروع يقوم في الإمارة. يقول أحد المديرين الذين عاصروا راشد، وعملوا في أحد المشاريع البسيطة التي أصبحت بعد ذلك مشروعاً يدر الملايين: كان لراشد دور كبير في تشجيع المشاريع الاقتصادية الصغيرة. فأحد المشاريع الصغيرة التي ظهرت في نهاية الخمسينيات، كان إنشاء شركة للمرطبات. لم تكن الفكرة معروفة من قبل.
فاقتصاد الإمارة كان قائماً على اللؤلؤ، ثم إعادة التصدير وتجارة الأغذية، وكان مشروع مثل هذا، يمكنه أن يلاقي الرفض، لو لم يكن الحاكم متفهماً ومتعاوناً، ولكن راشد شجع الفكرة ودعمها، بإعطاء الشركة قطعة أرض لإقامة المشروع. وسرعان ما نجح المشروع، بل إن نجاحه شجع ظهور صناعات أخرى مرتبطة به. فصناعة الزجاج والبلاستيك والورق، ارتبطت كثيراً بمشروع المرطبات. كما أن حركة النمو الاقتصادي، زادت بفضل الحاجة إلى عمالة وسكن ومواد غذائية مختلفة. كل ذلك، جعل حركة الاقتصاد في دوران مستمر، جلبت موارد اقتصادية للإمارة.
لم تكن الأسس الاقتصادية والقانونية في دبي، قد تبلورت بعد. فدبي قبل الاتحاد، لم تكن تختلف عن باقي الإمارات في مؤسساتها الإدارية والقانونية. فقد كان ديوان الحاكم، هو المشرع قبل ظهور البلديات والمحاكم. كما أن مجلس الشيخ، كان ملتقى يجمع الغنى والفقير ورجل الأعمال والمستثمر مع الحاكم، حيث يتبادل الجميع الرأي والمشورة، في جو يسوده الاحترام المتبادل والثقة. في هذا الجو المشبع بالتسامح، كان الحاكم يستمع بعمق وتأمل، لكل ما يطرحه رجال الأعمال ويدرسه جيداً. ففي رأيه، كل ما هو مهم لرجل الأعمال والمستثمر مهم لدبي. بهذا الفكر المتطور والبسيط، طور راشد فلسفته ورؤيته لمستقبل دبي.
إن دبي اليوم، وقد غدت قبلة عالمية للمال والاقتصاد، أنما تملك ذخيرة تاريخية كبيرة وفلسفة محلية، استطاعت بها أن تصل إلى العالمية. فهي لم تنجح فقط في تأسيس مشاريع اقتصادية ناجحة محلياً، بل، وفي تأسيس مشاريع ناجحة عالمية. فنظرة على مشاريع دبي العالمية، ندرك أن تلك المشاريع لم تكن مدروسة فقط، بل وذات جدوى للاقتصاد العالمي. قد بنت دبي على مدار عقود طويلة، الثقة في اقتصادها، حتى بات قيام أي مشروع اقتصادي في دبي مضمون النتائج. وهذا مدعاة لثقة المستثمرين ورجال الأعمال الأجانب، الذين نقلوا أعمالهم إلى دبي، لتصبح دبي عاصمة للمال والأعمال في منطقة الشرق الأوسط.
وقد عملت الإمارة على تسهيل كل الإجراءات التي تفسح المجال للمستثمر، من التركيز على مشروعه وتطويره، من خلال تبسيط كل الإجراءات. إن ذكرى راشد، سوف تظل خالدة في سجل دبي، ليس فقط بوصفه حاكماً قدم الكثير لبلده، بل بوصفه عبقرية اقتصادية فذة، استطاع بذكائه تحويل دبي من ميناء صغير، إلى مدينة المال والأعمال.
راشد.. سيرة تحكى تطور مدينة – بقلم د. فاطمة الصايغ – جريدة البيان