في شارع «خوسيه انطونيو» في مدريد، كان يقف في ظل زاويته رجل لا تبدو على هيئته الفقر، فهندامه بدلة ربيعية، سكرية اللون، واسعة ومتهدلة، كطبيعة الكتان المتقرفصة، مع قميص أزرق فاتح وطويل، يبدو فيها مثل ممثل إيطالي وسيم، بشعره الذي يشبه شعر النساء، ولا يتعب كثيراً في تصفيفه، أما النظارة الشمسية التي تستقر على وجه وضّاء، تخنجره لحية لعب بعض الشيب فيها، فتضفي عليه محبة مشتهاة من النساء السائحات اللائي يكتفين من الغنيمة بصورة قد يمزقها الزوج بعد العودة من السفر مباشرة أو في ساعة غضب بيتي، يقف يوزع على الناس ابتسامة، ويتبعهم بها لمسافة أقدام، يشعر فيها الرجال، وخاصة الشكاكون والذين تلقوا تدريباً عسكرياً في صغرهم، أنه سيستدرجهم إلى عملية نصب واضحة، قد تكون النساء طرفاً فيها، أما العابرات فكانت الابتسامة تربك خطاهن، وينفتح الفم برضاب عذب، ويتمنين أن يبصرن لون عينيه، وأخريات ربما سرقن صورته، وهيئته، وأجلسنها في ذاكرة حلم الفارس القادم من غمام الحكايات، يقف يعزف على «الفلوت» فلا تقدر إلا أن تقيّد رجليك قليلاً، تعطي لأذنيك سفراً مع موسيقى «الفصول الأربعة» أو «البوليرو» أو «كانتي بارتيرو»!
وحين يصفق له الناس، ويظهرون بعض المعادن البخيلة من جيوبهم، لا يجدون أين يضعونها إلا في بيت آلته الموسيقية الجلدي، فيسبقهم بكلمة شكراً بأربع أو خمس لغات، بعدها يتم التواصل معه، وسط استغراب ودهشة المارين من نبل الرجل، وتبدأ النساء في التمحك وطرح أسئلة ساذجة تلفت النظر لهن، كان يرد على الجميع، ويفك سر وقوفه اليومي هنا، لا لنقص في المال، إنما من أجل حبيبته، نور عينيه التي خطفها القدر، يشعر إن أدخل البهجة على نفوس الناس، ارتاحت نفسها، وحين يتمكن من قلوب الحاضرين يلقي شعراً بصوت يشبه حفيف الورق الخريفي، فتسمع تنهدات تكاد ترفع الـ «تي شيرتات» النسائية الزهرية إلى أعلى قليلاً، وحينما ينتهي من سحر تلك اللغة التي تتسلل إلى القلب لتربت عليه، يطلب من الواقفين أن يمدوا أيديهم إلى السلة الخيزرانية، ويأخذوا ورقة واحدة، ويقرأوها حينما يصلون بلدانهم، قد تحمل حظاً، كلمة تنير البصيرة أو حكمة تتمكن من العقل، فيتبعها الفعل، يتزاحم الواقفون ليخطفوا ورقة، لا يصبرون عليها كثيراً في اليد، بعضهم يريد لو يرى حرفاً، كلمة، أي دلالة، يضحك، ويعرف أن الصبر ليس محله هنا، يبدأون في توديعه وتصويره، تنبري شابة جميلة تعيد ترتيب أغراضه، تطبع قبلة على خده، يندهشون، يتذكرون: لقد قال قبل قليل عن الإخلاص، وعن فتاة كنور عينيه خطفها القدر.
تمسك الفتاة بيده، تعدل من وضع قميصه، وتجلي تندي عرق خفيف على وجهه، يحتضنها بدفء، شعر الحضور بمقداره، بدت كنور عينيه المنطفئ، قسّمت تبسمها ونظراتها على الناس وقادته عابرة به وبأغراضه الشارع، كانت عكازته التي تسبق خطواته في ظلمة العمى، في حين ما زال هو يرسم تلك الابتسامة المدهشة للحضور!
ذات نهار في خوسيه انطونيو – بقلم ناصر ظاهري
العويس الثقافية