هل تحتاج الثقافة إلى معنويّات عامّة مرتفعة؟ المفكر، الكاتب، الشاعر، الموسيقي، الفنان التشكيلي، أهل هذه الدائرة جميعاً، هل ينهار إنتاجهم في الأمّة المتعتعة المترنّحة، وتشمخ هامة إيفريست تجلياتهم إذا كانت الأمة «ما تبطّل تمشي بحنيّة لا يقوم زلزال»؟ قد يكون السؤال ساذجاً في نظر أوساط الإنتاج الفني، التي خرقت الأرض وبلغت الجبال طولاً، ولكننا صرنا، ولا مؤاخذة، أمام حكاية البيضة والدجاجة: الفن ينهض بالأمة، أم على الأمة أن تنتشل دابة الفن من كبوتها المديدة ولو بسطل ماء مثلج؟ وصل الأمر من التردي إلى حد ضرورة التوضيح أن السؤال استفهام إنكاري، بمعنى استنكاري شجبي تنديدي.
كل يوم مصيبة موسيقية جديدة. كل أمسية تلعثم ولُكنة وعيّ جديدة على حساب الشعر والفن، كأن العالم العربي اكتشف الشعر والكتابة الليلة البارحة. سامح الله القلم فقد أسرف في القول، ابتكر لهؤلاء فعلاً جديداً للتعبير عن التظاهر بالإبداع، قال: هؤلاء يتبادعون، كثر المتبادعون المتطفلون على الإبداع. لا يُقالنّ للواحد منهم ابتدع، هذا كثير، قولوا تبادع. وزاد عليه تنابغ أي تظاهر بالنبوغ. فلا تستعملوا غير الفعلين المذكورين إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فيتماثل الإبداع للشفاء.
معاذ الله، فنحن لسنا سيّئي الظن إلى حد اتهام المستهترين بالفنون الجادة، بأنهم فيروس كورونا في ساحات الذوق العام، ولكن المتهمين ليسوا أبرياء، إذ هم قدموا ألف دليل على الجرم المشهود بسوابق إصرار لا يمكن لأي جنّي محاماة الدفاع عنها وتبرئتها. الإصابات الفنية فيروسية العدوى. لا وجود لحدود تصدها وتحول دون تفشيها. الكارثة مزدوجة، فالنظام العربي لا يسعى إلى الحد من حدة التفكك، وأوساط الإنتاج الفني لا تكترث لانتشار عوامل التشتت والتفرق. تصبح وحدة اللغة عامل اجتياحات عدوى وأمراض، لأن للعرب لغة واحدة في النفع والمضرة. بالأمس كان الذوق العام شامخاً بين النجوم في «دعاء الشرق»: «أمماً شتى ولكن العلا.. جمعتنا أمّةً يوم الندا»، أو بالحنجرة الكلثومية: «يا ربّ هبّت شعوب من منيّتها.. واستيقظت أممٌ من رقدة العدمِ»، واليوم يجرؤ المرء على النطق بالنكر المنكر الذي يُغرق قيم الفن والثقافة والحضارة في مستنقع هبوط لا قرار له.
لزوم ما يلزم: النتيجة الطريفيّة: السابقون ظرفاء في ابتكارهم أساليب نقديّة تغني عن عناء النقد، بيض وطماطم.
جريدة الخليج