خروج البشر من أقفاص التواريخ الشمولية – بقلم

1142020

لم يعد جائزاً احترام تشظيّات التاريخ بقدر احترام شموليته ووقف التطلّع إليه بعيون زجاجية أوروبية أو أمريكية أوبريطانية أو روسيّة وغيرها.
لماذا؟
لأنّنا قد نتذكّر اليوم البرتغالي فاسكو دو جامّا الأوّل الذي اكتشف طريق الهند بعدما دار حول رأس الرجاء الصالح في إفريقيا عام 1498 مستعيناً بالعرب ليهتدي طريقه في مجاهل المحيط الهندي.
ولأنّنا نتذكّر البحّار الإيطالي كريستوف كولومبس الذي أبحر من يالوس في 3 أغسطس/‏آب 1492 قاصداً الهند من ناحية الغرب عابراً الأطلسي في دورة نحو الجنوب والشرق حول إفريقيا ليقتنع بأنّ الأرض مستديرة، لكنّه وصل إلى سان سلفادور في أمريكا مسمّياً الشعوب التي اكتشفها في أمريكا هنوداً، جازماً بكرويّة الأرض مع أنّه لم يصّل إلى الهند.
ولأننا نقيم في «عالمٍ مسطّح»، وفقاً لكتاب توماس فريدمان «The world is Flat» الذي ذهب في عصر العولمة، وذهبنا مثله نحو الهند والصين من جهة الشرق.
ولأنّه علينا فهم العالم المتغيّر أمامنا قطعاً كما هو، لا كما يجب أن يكون عبر تواريخ الدول الكبرى، لأنّ الشعوب قد تذهب في طريقٍ آخر معاكس لما رسّخته الدول الكبرى ركائز للحضارة. ولأنّ الإنسان المعاصر يخرج من الأقفاص الغربيّة في التفكير أو من جنون العصور المقفلة القديمة في ديمومة العظمة ونفخ التاريخ الوطني.
ما الفرق بين التاريخين؟
الفرق في البحث عن الجذور التي تفرّخ من جديد!؛
الكتابة شاقّة، في المعترك الذي تغرق فيه النصوص والأفكار والاجتهادات في الكورونا. هذا زمن مثير للاهتمام؛ لأنّه يُظهر أوّلاً: حيرة عميقة علمية كونيّة، وثانياً: لأنّ المشكلات العالميّة والسياسات الدوليّة والمحاولات الوطنيّة تتراكم وتنذر بانهيارات ضخمة منتظرة لها وتحدّيات فيزيائية حيوية جديدة تماماً، وثالثاً، وهو الأهم، تكتشف الجماعات العلميّة والبشرية طريقة حياة للكوكب الأرضي في تفاعلاته الفيزيائية والبيولوجية والبشرية.
صحيح أنّ المناخ العام العالمي مشحون بالاتّهامات والاتّهامات المضادة بين الدول العظمى المنهكة، وصحيح أنّ الوضع يرسو ثقيلاً فوق صدور البشريّة أثقل من تطاير حبيبات الكورونا، لكنّ الأسلم ذهابي من هنا إلى مقاربة جديدة أتوخّاها تبحث في مفهوم جديدٍ للتاريخ الشمولي أو الكلّي الذي أحسن تنقيته الفرنسي فرانسوا ريناير في كتابه الذي نخل عبره 5000 سنة من تاريخ القارّات بعنوان: «تاريخ العالم الكبير».
لا أحد يشكك بقدرات الصين العسكرية المذهلة، وبراعتها التكنولوجية واقتصادها النامي الذي سمح لها في لحظةٍ ما أن تفكّر بقذف الكرة الأرضيّة إلى فوق أو دفعها لأن تخرّ على ركبيتها. بالفعل، ما جذور هذه النهضة من أقاصي الشرق؟ وكيف يمكن لدولةٍ متخلّفةٍ يابسةٍ منذ قرون يتحرّك أهلها فوق العجلات، أن تنجح في تحقيق هذا التقدّم الهائل في ثلاثة قرون؟
هناك صورة تاريخيّة قديمة مقيمة في رأس كلّ صيني وتكاد تقرب من الحقيقة هي الحلم الإمبراطوري القديم. كانت الصين، من أعرق الحضارات حتى نهاية القرن الثامن عشر، وقد انهارت بين أصابع بريطانيا التي لم تكن تغرب عن مستعمراتها الشمس وقد أفلت بدورها لتحلّ مكانها القوى العظمى الأخرى في منتصف القرن التاسع عشر.
لقد تحوّلت أوروبا إلى قوة هائلة دفعتها تحتلّ معظم الكرة الأرضية منذ القرن السادس عشر؛ لكنّ انتشارها العظيم وعظمتها اندثرتا في القرن العشرين مع ركام الحربين العالميتين. جاء دور أمريكا والاتّحاد السوفيتي بعظمتيهما لتتقاسما الكرة الأرضية .
كسر سقوط الاتّحاد السوفيتي (1989) هذه الثنائية للعالم، ودفن الادّعاءات التاريخيّة بأبديّة العظمة، وراحت البشرية تنتظر، في كلّ لحظة، قوى قديمة ناهضة مثل الصين والهند والبرازيل وإفريقيا الجنوبية وإندونيسيا والدول الإسلامية، وكلّها تغلي في قدر يضجّ بمجابهة العظمة الدولية وحتّى تفكيكها بحثاً عن المتغيّرات الآتية.
منذ تشظيّات العظمة المتعدّدة وبروز شهيّاتها ومخاطر تجدّد صراعاتها وحروبها في أكثر من ناحية في الأرض كما في الفضاء، كانت البشرية ويدها على قلبها، تشعر بأن العالم قد تغيّر. 

جريدة الخليج