قبل شهر لم يكن أحد من الفرنسيين قد سمع به. ثم فجأة انتشرت صوره في المجلات وتردد اسمه في نشرات الأخبار. صار حدثاً من أحداث البلد. وليس المقصود هنا وباء كورونا، بل الطيب سهل. شاب عربي مهاجر يعمل خبازاً في دكان للمعجنات في باريس. ماذا فعل الخباز ليشتهر؟
لو حاولنا تحديد صفة أساسية لدى الطيب سهل فهي أنه خجول. وهو ليس خجل التواضع أو التظاهر بالحياء، بل أن يضطرب في الكلام ويتلعثم ويغضّ البصر ويهرب من مواجهة الأسئلة. إنه لا يفهم لماذا يريدون أن يعرفوا رأيه فيما حدث له. ما هذه الميكرفونات التي تمتد بها أيدي مندوبات التلفزيون ومراسلي الصحف الأجنبية؟ ليتهم يشفقون عليه من الحرج ويتركونه لشأنه، ينزل إلى القبو ويحمل كيس الطحين ويهيئ العجين ويزج الصواني في الفرن. القبو والفرن والخميرة ورائحة الرغيف الساخن هي كل عالمه. هل هناك ما هو أطيب من رائحة الرغيف الساخن؟ كان مرتاحاً لدفء القبو، ولا يريد الخروج إلى النور والنسمات الباردة. ولعله ما زال يحتفظ، تحت طبقة جلده، بزوادة من شعاع جاء به من بلده الأفريقي المشمس الجميل.
ماذا حدث للطيب؟
قالوا له إنه فاز في المسابقة السنوية. وهو صاحب الحظ السعيد من بين أكثر من 200 خباز في باريس. لقد تنافسوا، شيباً وشباناً، لتقديم أفضل رغيف فرنسي «باغيت». والرغيف الأفضل هو ذاك المحمّص بدرجة معينة من الخارج، الطري بدرجة معينة من الداخل. الناضج دون أن يكون عجيناً. وهو يشبه العصا. ذاعت شهرته في العالم وأصبح من العلامات القومية لفرنسا. لكن أهم ما في المسابقة أن «الإليزيه» يشتري خبزه من الفائز طوال السنة. والفائز لعام 2020 هو الطيب سهل. عامل بسيط لم يسع إلى الفوز ولا يعرف خطوات التقدم للمنافسة. لقد رشّحه صاحب المخبز. وصاحب المخبز هو الرابح الكبير من الشهرة. سيأخذ شهادة جميلة تحمل ألوان العلم الفرنسي، يعلقها على واجهة محله ويتباهى بها. وسيأتي الزبائن من الأماكن البعيدة ليجربوا «رغيف الإليزيه». سيقدمونه لأطفالهم على موائدهم السعيدة. لا فرق بين ما يمضغه الرئيس وما يلوكه أي مواطن.
يسألون الطيب سهل عن رأيه باللقب فيرتبك ويشيح بوجهه عن الكاميرا. يمسح بصدريته كفيه البيضاوين من نخالة الطحين. يتمتم: «لا أدري. لا أعرف ما المطلوب أن أقول. أنا خباز وكفى». هو خباز وكفى. يعجن الدقيق بالماء ويقولب الأرغفة ويزجها في الفرن ويراقب نضجها ويمد الملقط الخشبي الطويل لينتشلها من النار. بعد ذلك يأتي أهل الحي لكي يأخذ كل منهم خبزه كفاف يومه. لا يعرف الطيب أن أهل هذه البلاد يرددون في صلواتهم الصباحية دعاء: «اعطنا خبزنا كفاف يومنا». وهم بدورهم ما كانوا يعرفون أن أصابع عامل عربي قد عجنت خبزهم. ويقال إن «الكرواسون» الذي يفطر عليه الفرنسيون وصل إلى أوروبا عن طريق العثمانيين، لهذا فإنه يأخذ شكل الهلال. وهذا أيضاً له تقاليده ومواصفاته. لكن المهنة باتت مهددة بخطوط الإنتاج الواسع. تذهب إلى «السوبر ماركت» وتشتري رغيفاً خارجاً من المجمدة، فرّخته المكائن بالجملة كما يفرّخون الكتاكيت.
هل يمكن الحديث عن الرغيف من دون أن تستدعي الذاكرة خبز باب الآغا؟ يولد العراقيون وهم يسمعون آباءهم يضربون به المثل: حار ومقصّب ورخيص. صفات ثلاث هي عز الطلب. صارت علامة للجودة بالمفهوم الشعبي. وكان ذلك قبل إنشاء الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية، في بلد ضاعت فيه كل المقاييس.
جريدة الخليج